لم يكذب من قال إن عصام شرف أتى من ميدان التحرير، بينما معظم وزرائه جاءوا من ميدان مصطفى محمود، ودارت الأيام ومرت الأيام لتتأكد هذه المقولة فلم يكن الأمر مقتصرا على بداية تشكيل الحكومة التى رص وزرائها وسط أجواء ملتهبة ومتعجلة، بل امتد حتى تم تعيين وزيرين من عتاة "الفلول" فى الاختيارات اللاحقة لتشكيل الوزارة، ما يؤكد وجود "خرم" فى حكومة شرف، يتسرب إليه الفلول فلا وراء فل، وما يحزن أن هؤلاء "الفلول" لم يتنازلوا عن طبيعتهم وطباعهم التى تعلموها من مبارك، فها هو السيد وزير خارجيتنا محمد العرابى يمارس أقسى أشكال الذل المباركى ويقول لجرائد الخليج إن السعودية هى الشقيقة الكبرى! ولا أعرف كيف تداعت إلى ذهنى تلقائيا شهادة اللواء شفيق البنا مسئول القصر الرئاسى فى زمن مبارك حينما وصف مقدار الهوان التزلف الذى كان يتقنه الرئيس المخلوع ويمارسه عن حب واقتناع، ضاربا مثالا على هذا أنه كان يكلف ابنه بطلب "سيارات وأشياء أخرى" من ملوك السعودية وأمرائها، فهل يسير السيد "وزير الثورة" على نهج المخلوع حتى فى التذلل والضعة والمهانة، ويضحى بثورة الكرامة من أجل عيون سعوديته؟
إدينى أمارة يا سيادة الوزير على أن "سعوديتك" هى الشقيقة الكبرى، وحاول أن تقنع أحدا سواك بهذا اللقب قبل أن تقنع به نفسك، فهل هى شقيقة كبرى فى عدائها العميق لثورة مصر؟ أم لحربها الضروس على شعب البحرين ؟ أم لعمالتها لإنجلترا ومن بعدها أمريكا؟ أم لمحاولاتها المستمرة لفرض بداوتها ووهابيتها ورجعيتها على شعوب المنطقة ؟ أم لمحاولاتها المستمرة لتضئيل منبر الأزهر الشريف والسعى لتخريبه وتفتيته؟ أم لعدائها الواضح مع كل حركات التحرر والتمدن فى العالم العربي؟ أم لسعيها الكريه لعدم محاكمة مبارك ؟ أم أنك لم ترى فيها إلا بنكا كبيرا وبئر بترول كبير فأنعمت عليها "بالمرة" بلقب الشقيقة الكبرى؟ أجب يا سيادة الوزير، ولا تخبئ رأسك فى رابطة عنقك، أوامسك عليك لسانك لكى لا تفقد مصر ما كسبته طوال تاريخها الكبير من مكانة وإكبار.
إن أراد سيادة الوزير المهاب فى هذه الأيام الهباب أن "يفنجر" فليفنجر من جيبه، وإن أراد أن يحابى السعودية ببقين حلوين فعليه أن يهاتفها فى التليفون سرا، أو أن يبث إليها أشواقه ولوعاته تحت بير السلم، لكن أن يضرب سيادة الوزير بمكانة مصر وشعبها عرض الحائط لتنتفخ السعودية أكثر وأكثر وتعتقد أنها فعلا شقيقة كبرى فهذا ما لا يقبله أحد، ولا أبالغ إن قلت أنه لو سمعك "أصغر عيل" فى ميدان التحرير تقول هذا الكلام لضربك على فمك قبل أن تكمل كلماتك المهينة، ويبدوا أن سيادة الوزير مازال يتبع سياسة "المحلسة" التى كان يتقنها مع سيدته "سوزان مبارك" حينما أتت به مقررا لمكتبتها، كما يبدوا أن سيادته لا يعرف أن "مصر بتتغير .. وإحنا كمان".
يعيد إلينا هذا الوزير مشكلة عانينا منها سنينا فى فترة حكم مبارك، وهى أن مسئولى مصر وممثليها كانوا دائما أصغر منها، فقد كانوا "لا رحمهم الله" دائما يبدون كمن لم يقرأ حرفا فى التاريخ، ولا عاين شبرا فى الجغرافيا، ولا فقه درسا فى التربية الوطنية، لا تعرف من هم ولم أتوا إلى مكانهم ولم يستمرون فى عملهم بينما كل شيء تحت أيديهم فى انهيار مريب، وبما أن السيد الوزير الذى قال فور توليه إنه سيحافظ على دبلوماسية مصر فى مرحلة ما بعد الثورة، يجامل السعودية على حساب مصر، فمن المؤكد أنه لابد من مراجعة تصريحه مرة أخرى، وأغلب الظن أن التصريح سليم، لكنه بالتأكيد لم يكن يقصد ثورة يناير، وإنما كان يقصد الثورة المضادة.
لم يكن مقبولا ولا مستساغا من أى وزير خارجية أن يتفوه بمثل هذا الكلام الجاهل قبل الثورة، وبالطبع ولا بعدها، ومشكلة وزير خارجيتنا أنه ظن أن تصريحه سيمر مرور الكرام، لكنه لا يعرف أن السعودية لم تكن لتفوت هذه الفرصة لتنال اعترافا من مصر بريادتها المزعومة، وما يدل على أن هناك عيوب أساسية فى شخصية الوزير هى طريقة معالجته للمشكلة، فسارع سيادته إلى التحدث مع الدكتور سليم العوا الذى طالب باستقالته ليقنعه برأيه وليبرأ ساحته، لكنه نسى أن "العوا" ليس مصر التى أخطأ فى حقها حتى يصالحها بكلمتين، ولا يمثل إلا نفسه برغم ترشحه المحتمل لمنصب رئاسة الجمهورية، ونسى سيادة الوزير أيضا أن عليه أن يعتذر علانية للشعب المصرى العظيم على هذا التساهل الأعمى فى التفريط فى مكتسباتنا التاريخية، وليعلم السيد عرابى أن أبناء مصر قد يتحملون على مضض أن يكون "فل من الفلول" فى منصب وزير حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، لكن ما لا يسمح به أن يتهاون أيا ما كان فى مكانة استعدناها بعد أن أضاعها أشباه هذا الوزير.