وائل السمرى

قبل أن تصبح الثورة حكاية مأساوية

الأحد، 17 يوليو 2011 10:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانا يتقابلان خلسة فى أطراف قريتهما، وفى قلبهما من الشوق ما يكفى لبلد بأكملها، يختلسا اللحظات حتى لم يعد يكفيهما الوقت، أرادا أن يلتصقا فمنعه ضيق الحال وقصر اليد، ومنعها الحياء والخوف والقهر واليتم الذى كان يجمعهما ويقرب بينهما، كانا غريبان عن محيطهما، والغريب للغريب قريب، كانا يريدان أن ينعما بالمحبة قوتا، والحب مائدة، والونس بعد الوحدة، فقررا أن يحسنا الظن بالعالم، ويا ليتهما ما أحسنا.

كان اسمه "منتصر" وكان اسمها "مباركة" بينما كانت قريتهما تحمل اسم "العش" وكأنها بذلك الاسم الدافئ تحرض كل عاشق على أن يبنى له فى حضنها بيتا، ولما كان منتصر "يتيما" أوكل عمه بأن يخطب له "مباركة" فرحب العم وارتدى جلابيته الجديدة وذهب إلى أبو "مباركة" قائلا إنه يريد أن يخطب الفتاة الجميلة التى "خرطها خراط البنات" ولم تعد صغيرة للعب فى الغيطان، فرحب الأب وقال للعم، "واحنا هيجيلنا أحسن منك يا حاج" لمعت الفكرة المباغتة فى عقل الشيخ العجوز الهرم، وتذكر أنه لم يذكر أنه يريد خطبة البنت لابن أخيه، وأن الأب ظن أنه يريد أن يخطبها لنفسه، ووافق! فقال لنفسه: ولم لا، أخطب البنت لنفسى أجدد بها شبابى، وليخبط منتصر رأسه فى الحيط.

مباركة هى الأخرى كانت يتيمة الأم، لكنها كانت تتمتع بجمال أنثوى فاتن ومثير، وكانت تجد فى رائحة جسد منتصر الرجولية النفاذة ما تجده النحلة فى الزهر من انجذاب ووله، أما أبوها فقد كان يريد أن يتخلص منها ليبدأ حياة جديدة مع زوجة جديدة، ولهذا سارع برميها فى حضن أول من يطرق الباب حتى لو كان أكبر منه، الصدفة وحدها جعلت مباركة من نصيب عم منتصر، أما منتصر نفسه فعانى كثيرا من أنانية العم، ثم "طفش" من القرية ولم يظهر بها أبدا، ليترك مباركة وحدها تصارع وحشة حضن العجوز وغباوته وخشونته ورائحته النتنة.

كبرت مباركة وأصبحت أمًا ثم جده ثم أصبح لأبنائها أحفاد، مرت بها الأيام والأعوام والعقود، وتبدلت بها الأحوال، وهى كما هي، عفية قوية جميلة، تحب الحياة وتحرض أبناءها وأحفادها على الزواج والإنجاب، لكنها ملت الحياة لدرجة أنها كانت تناشد أحفادها أن يبعثوا برسالة إلى الله ليريحها من ملل الدنيا، وقبل أن تموت دخل عليها صبى صغير، شمت فيه رائحة منتصر، فابتهج قلبها وخفقت روحها وعلمت من الصبى أنه حفيد منتصر، وأن حبيبها القديم لم ينسها لحظة واحدة، وأنه حكى لأبنائه وأحفاده عن حبيبته الأبدية، وأوصاهم باللجوء إليها وقت الحاجة، ولما رأى أحفادها هذه اللهفة على الصبى ألح عليهم الفضول ليعرفوا القصة، فحكيت لهم قصتها مع منتصر، فكانوا كلما أرادوا أن يمازحوها يذكرونها به فتقول: ريحة راجل.

بهذه الجملة "ريحة راجل" يفتتح الروائى الكبير عزت القمحاوى روايته الفارقة "بيت الديب" ويختمها، جاعلا من الرائحة بطلا ومن الرجولة واليفاعة والفتوة أملا ومشتهى، انتهى القمحاوى من كتابة هذه الرواية ونشرها قبل اشتعال ثورة يناير بأسابيع، ولم يدع مثل العشرات من أنصاف الكتاب أنه تنبأ بالثورة، لكن فى الحقيقية جسد القمحاوى مأساة الثورة الحقيقية ومصيرها المنتظر ببراعة فنية راقية، فقد خرج شباب مصر حاملين أرواحهم على أكفهم، تغنوا بحب مصر فمات منهم من مات، وأصيب منهم من أصيب وانتصر منهم من انتصر، لكن الشباب "المنتصر" أوكل إلى أعمامه "من لجان حكماء ومجلس وزراء ومجلس عسكرى وخبراء وسياسيين وإعلاميين وإخوان مسلمين وسلفيين وأقباط" أن يخطبوا له حبيبته المباركة "مصر" فزغلل جمالها أعينهم وأرادوا أن يخطبوها لأنفسهم، غير عابئين بصرخات الحبيبة أو بتألم الحبيب.

لا يمتلك شباب الثورة المصرية إلا الحب، دفعوا مهر الحبيبة دما وعرقا وتعبا، ليس بجيبهم مليارات رجال الأعمال المهيمنين على كل شيء، ولا بحوزتهم جيوشا ولا مؤسسات، ولم يتمكنوا من بناء قواعد شعبية وتنظيمات متشعبة، ولا يتقنون ألعاب السياسة القذرة ولا عقد الصفقات الرخيصة، ولا يمتلك آلة إعلامية تآزره وتدعمه وتساعده فى بناء حلمه بوطن حقيقي، وقع الشباب فريسة لأصحاب المصالح الذين يملكون كل شيء، بينما هو لا يملك إلا الحب، وقف الشباب بجسارة وشجاعة أمام كل آلات الطغيان أثناء حكم مبارك، قهروا جواسيسه، وأمنه دولته، ووزارة داخليته، وإعلامه الفاسد المفسد الكذاب، ورجال أعماله بجمالهم وحميرهم ومخدراتهم وأموالهم، قهروا الباطل فى شكله الواضح، لكنهم الآن يعانون بعد أن عمل الباطل "نيو لوك" وارتدى ثوب الثورة، وبدأ فى التسلل إليها وتخريبها من الداخل.

لست متشائما ولا سوداويا، لكنى أعرف أن التخريب الواقع فى الثورة المصرية كبيرا، وأن أعداءها تجمعوا بعد أن فرقتهم روح يناير العظيمة، واستوعبوا الصدمة المجلجلة، وبدءوا فى ترتيب أوراقهم وتغيير إستراتيجيتهم، والله لست متشائما، لكنى ارتعب كلما قال لى أحد أصدقائى الذين كانوا يقفون بجانبى فى الميدان أن اليأس بدأ يتسرب إلى قلوبهم، وأنهم قد ييأسوا تماما فى القريب، ويهاجروا البلد التى أحبوا، وما يزيد من ارتعابي، هو أن كاتبا جميلا وصادقا وشفافا مثل عزت القمحاوى صاحب رائعة "بيت الديب" غادر مصر بعد الثورة بأسابيع، ليعمل مديرا لتحرير مجلة الدوحة الثقافية، وليجعلها فى شهرين اثنين أهم مجلة ثقافية فى العالم العربى، بعد أن اضطهدوه فى بيته "أخبار الأدب" وأجبره نبله وعفته على أن يترفع عن المكائد المؤامرات ويذهب إلى أرض الله الواسعة، ومع ذلك لست متشائما مادام الميدان موجودا، وفى قلوبنا نبض، وفى أعيننا بصر، وفى أجسادنا حناجر، وفى أرواحنا يقين دائم بأن الحق "منتصر".





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة