شعور المواطن المصرى بالأمان هو المدخل لثقته وإيمانه بالثورة، وفى الواقع فإن إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية هى أحد أهم التحديات التى تواجه الدولة والنظام السياسى فى مصر؛ لأن المؤسسة الأمنية كانت هى اليد الباطشة للنظام السابق، وكانت هى العضلة النابضة فى قلبه، فاتسعت المساحات التى تمددت فيها على حساب مؤسسات أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية. كما أن المؤسسة الأمنية فى الوقت نفسه كانت تعبر عن التعبئة والحشد والمصالح لكل المنتسبين إليها، وقد تضخمت فى العدد لحد أنها جاوزت المليون.
ولأن نظام مبارك قد حول المؤسسات داخله إلى خادمة لشخص الحاكم فيما أطلق عليه «شخصنة النظام السياسى»، فإن هذه المؤسسة الضخمة قد رأت نفسها أشبه ما تكون بالعصابة التى لا تعمل ضمن نظام سياسى وفق قانون، وإنما هى تعمل لمصلحة شخص. وهى قد استعانت بقطاعات واسعة من البلطجية فى المجتمع المصرى لتحقيق ما يريده منها الحزب الوطنى خاصة فيما يتعلق بتزوير الانتخابات. ولأن الفلسفة التى قامت عليها المؤسسة الأمنية فى عصر مبارك كانت تستبعد فكرة الخروج الواسع من الجماهير لتحدى النظام والثورة عليه، فإنه حينما حدث ذلك فى يوم 25 يناير انهارت تلك المؤسسة لأنها تعودت مواجهة تحديات أمنية ضيقة لمحتجى الحركات الاجتماعية، ولكنه حين خرج الشعب كله بالملايين فإنها انهارت. طبعًا فكرة الشللية والمحسوبية والفساد كانت منتشرة على نظاق واسع فى تلك المؤسسة، خاصة فى عصر وزير الداخلية القاتل حبيب العادلى، كما أن أمن الدولة التى كانت تمارس القمع ضد السياسيين، خاصة الإسلاميين منهم، كانت قد تحولت إلى مفهوم أقرب للمافيا يستخدم أدوات الدولة وشرعيتها لتغطية أعمالها القذرة التى وصلت لحد القتل لمعارضين سياسيين ودفنهم تحت مقر أمن الدولة فى مدينة نصر. ويبدو أن عدم قدرة القائمين على تلك المؤسسة - بمن فيهم وزير الداخلية نفسه - على تطهير تلك المؤسسة من عناصرها المضادة للثورة والموالية للنظام السابق قد جعل إعادة بنائها على مفاهيم الثورة الجديدة ومفاهيم احترام حقوق الإنسان وكرامته أمرًا لم يتحقق بعد. يبدو أن المؤسسة الأمنية المدنية تراود نفسها أن الثورة كانت ومضة ستزول وسرعان ما ستعود مرة أخرى لاستعادة أدوات قمعها، ومن هنا كانت المواجهة التى حدثت مؤخرًا فى ميدان التحرير والتى زاد عدد مصابيها على الألف. هناك ملفات تحتاج ممن يحكم مصر - سواء المجلس العسكرى أو حكومة تسيير الأعمال - أن يضعها على جدول أعماله، وعلى رأسها ملف إعادة بناء المؤسسة الأمنية المدنية فى مصر. أنا أعرف فى التاريخ أن مؤسسات أمنية مثلت تحديًا ضخمًا لدول كبرى وإمبراطوريات عظمى، وكان قرار الدولة هو إعادة بناء تلك المؤسسة على أسس وقواعد جديدة، ومن الجذور، الثورة تفرض إعادة بناء المؤسسة الأمنية من الجذور، وهنا أذكر بما فعله محمد على، مؤسس مصر الحديثة، بالمماليك والسلطان محمود بالانكشارية، أنا هنا بالطبع لا أدعو لاستخدام القوة ضد منتسبى تلك المؤسسة القديمة، ولكن أؤمن بأن إعادة بناء المؤسسة من الجذور، وعلى أسس حديثة، هو أهم تحديات الدولة المصرية بعد الثورة. ما حدث فى ميدان التحرير يعود بنا للوراء، ويشعر المواطن المصرى بفقدان الأمن، وهنا فإن أهم عنوان لوظائف الدولة المصرية بعد الثورة هو تحقيق الأمن لمواطنيها؛ حتى لا يقولوا إن الثورة جلبت لنا الخوف وحرمتنا من الأمان.
بالطبع الأمن فى مفهومه الواسع يجعلنا نتحدث عن الأمن الاجتماعى، ونقصد هنا الفئات المهمشة والفقيرة فى العشوائيات المحيطة بالقاهرة الكبرى، كما يجب أن نشير إلى مئات الآلاف من البلطجية الذين رباهم نظام مبارك، وآلاف الهاربين من السجون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة