الحديث عن التطهير السياسى، وتنقية مؤسسات الدولة يبدو عنوانا كبيرا، لكنه فى المستوى العملى يخلو من أى تفاصيل، والكلام فيه أكثر من الفعل. هناك من يتحدث عن الإطاحة بالصف الأول من المسؤولين الكبار الذين تورطوا فى الفساد، أو احتلوا وظائفهم ومناصبهم بدون وجه حق استنادا إلى الولاء، وهناك من يتوسع ليطالب باستبعاد حوالى نصف مليون من قيادات الحزب وأعضاء مجلسى الشعب والشورى، والمحليات، وقيادات الصف الأول فى الشركات، والبنوك، والقضاء، وينزل البعض بالعملية لتشمل مئات أو آلافاً فقط من الضالعين فى فساد مؤكد.
الأزمة فى كل هذا هى التشابك الواسع الذى هو نتاج عقود طويلة، حيث إن السنوات الثلاثين الأخيرة شهدت عملية توريث للوظائف والمناصب والمواقع السياسية بشكل يصعب معه الوصول إلى شبكة يمكن تطهيرها. كانت مناصب الشرطة والقضاء والبنوك والخارجية والجامعة والإعلام تتم بالتوريث من الآباء للأبناء، وهو أمر خلق عشرات الآلاف من المواقع القانونية، ومن الصعب الآن أن نطالب هؤلاء بترك مواقعهم ومكاسبهم. كل هذا يكشف لنا صعوبة إجراء عملية تطهير حقيقية، تتجاوز مجرد عملية شكلية لا تنتج شيئا.
و يُخشى إذا جرت عملية التطهير بعشوائية أن تتم إزالة فاسدين ليحل مكانهم محتالون أو فلول من محترفى الصعود، وهذا وارد مادامت لم تتغير قواعد الاختيار، لتكون أكثر شفافية ووضوحا.
المطلوب ليس عملية تطهير شكلية، لكن تغيير نظام اختيار القيادات الجامعية، والقضاء، ووكلاء النيابة، من خلال لجان معلنة يتم اختيارها بالكفاءة والتفوق، وليس بالواسطة، وأن تكون قرارات هذه اللجان معلنة وقابلة للطعن عليها أمام القضاء، وهى عملية تستغرق سنوات حتى يمكن إحلال الأكفاء فى كل موقع مكان الوارثين وحاملى «الوسايط».
لقد كان أخطر ما جرى فى النظام السابق هو تجريف الكفاءات، واستبعادها لصالح أهل الواسطة، وأبناء قيادات الوطنى، وأيضا أبناء القضاء، والضباط، والسفراء، وتكوين شبكة مصالح تجعل الأمر أكبر من مجرد فلول هنا أو هناك، تكشف عن أن هناك مئات الآلاف من الضالعين فى النظام السابق بحكم المصالح والمواقع، وهؤلاء ليسوا مستعدين للتنازل عن مكاسبهم ومكاسب أبنائهم، بل أننا نرى قضاة وأساتذة وسفراء يعتبرون تولى أبنائهم حقا، وليس سرقة لحق الآخرين، ولا يرون فى هذا أى نوع من التجاوز والانتماء للنظام السابق، بل إنهم مستعدون للوقوف ضد أية محاولات لانتزاع مواقعهم أو مكاسبهم.
وللمفارقة فإن الكثير من هؤلاء ليسوا محسوبين على النظام السابق، وبعضهم يرتدى ملابس الثورة ويمارس المزايدة، وأيضا يشارك فيما يسمى عملية التطهير التى يجب أن تبدأ باستعادة حقوق الشعب فى الوظائف والمواقع التى تمت سرقتها على مدى عقود، ومواجهة هذا هى التى يمكن اعتبارها تطهيرا يتجاوز أن نطيح بـ«ألدو» لنضع شاهين، بينما الأمر، يحتاج إلى ثورة، فى حد ذاته.