يوجد أشخاص ملهمون لم يبخلوا عليك بشىء، أشخاص لم تتعرف عليهم عن قرب، ولكنك تعرف أن وجودهم فى مكان ما أحياء، هو سند لك فى مواجهة الظلام الذى يبنى جدرانه الظلاميون بعيدا عن الغناء، من بين هؤلاء سعاد محمد أو بمعنى أدق صوت سعاد محمد النقى الساطع الحنون، الذى إذا «هل» عليك تشعر براحة وطمأنينة، وتكتشف أنك كنت فى حاجة إلى ما يخفف عن قلبك، لا تستطيع أن تصف صوتها كما يفعل الأكاديميون، أنت فقط تميزه وتحن إليه، لأنه يستدعى معك «طلع البدر علينا»، وكأن مشاعر الإيمان «الخام» الذى رسم طريقك لا تزال فى مرحلة الطفولة، هو صوت مثل فاكهة محببة لا اسم لها، صوت مباغت يأخذك من يديك عنوة لترى بعينيك الأشواق ترفرف فى مكان بين ضلوعك، ملامح سعاد محمد عادية وغير لافتة ومنطقية وحادة، الحدة التى إذا باغتتها الابتسامة يشع من العينين نور مباغت، ويتسع الوجه ليصير أكبر من صاحبه، عندما علمت بخبر رحيلها الأسبوع الماضى، حط على حزن شفيف، ووجدتنى فى حالة شجن، وبدأت ذاكرتى تستعيد حالاتها مع الغناء، وكيف قرأ صوتها ألحان القصبجى وزكريا والسنباطى وعبدالعظيم عبدالحق وصدقى والموجى والشريف وغيرهم من الذين اكتشفوا طيبتها والطاقات الخفية بداخلها، عندما تستمع إلى «أنا هويت» (سيد درويش) منها ستكتشف أنك أمام صوت قادم من أزمنة بعيدة، يرفرف منفردا فوق زمنك، ولن تشغل بالك بجنسيتها (اللبنانية) ولا بأصول والدها (الصعيدية)، أنت فقط مع صوت مصرى يعبر عن أشواق المصريين، ستكتشف سعاداً أخرى فى «فتح الهوى الشباك، أو من غير حب الدنيا دى إيه؟»، وستتعرف على واحدة ثالثة وهى تبدع فى أغنيات الشيماء، وخصوصا «كم ناشد المختار ربه»، لكنها ستكون أقرب ما يكون إلى قلبك فى «آسيت ولا حد آسى قد ما آسيت» مع زكريا وبيرم، أو«يانا ويانا واللى أحبه غزال» مع عبدالعظيم عبدالحق وعبدالفتاح مصطفى، طوال عمرها (85 عاما) لم تزاحم أحدا على شىء، شغلتها الحياة وخلفة العيال كثيرا، ولكنها قدمت الكثير أيضا، الوحيد الذى لم يلحن لها من الكبار هو محمد عبدالوهاب، وعندما سئل فى حديث إذاعى قال إن صوتها أكبر من ألحانى، ثم ضحك وأضاف: «لقد حاولت معها، وكل مرة أتصل بها أجدها يا إما حامل أو والدة جديد»، سعاد محمد التى أنجبت عشر مرات، أرّخت بصوتها الفريد لكل مدارس التلحين تقريبا، ودخلت قلوب الناس بدون واسطة لأنها تشبههم وتحبهم، ويخطئ من يظن أن أم كلثوم حاربتها بسبب الغيرة، وأنها لفقت لها قضية تهريب مجوهرات، وهى التهمة التى سقطت بعد قيام الوحدة المصرية السورية، لأن أم كلثوم لا تقارن بأحد، وهى وأسمهان مهدتا الطريق وألهمتا الأصوات التى جاءت بعد ذلك، لقد شكلت سعاد محمد (رحمة الله عليها) مع ليلى مراد وصباح ونور الهدى وهدى سلطان وفايزة وشادية ونجاة ووردة ونازك وعائشة حسن وعصمت عبدالعليم ومديحة عبدالحليم وشافية أحمد، فريقا من الأصوات النسائية العظيمة التى رسمت «أفيشا» مبهجا لمصر التى كانت.. تغنى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة