أيقظت الثورة المصرية العظيمة العديد من الفضائل الجميلة فى الشخصية المصرية، ولعل أهمها فضيلة الأسف وثقافة الاعتذار، كان الاعتذار هو اللغة السائدة فى ميدان التحرير إذا ما اصطدم بك أحد مصادفة، أو فتشتك اللجان الشعبية على بوابات الميدان، أو دهست قدمك.
فى تطور إيجابى أصبح شعار الميدان هو الاعتذار، وامتلأ باللافتات التى تقول «أنا آسف يا مصر.. اتأخرت عليكى كتير» لكن مثلما يستخدم الطبيب المشرط فى الجراحات العاجلة، ويستخدم البلطجى نفس الآلة فى ترويع الآمنين، استخدم أتباع مبارك وزبانيته نفس الثقافة لترويج سخافاتهم تحت شعار «إحنا آسفين يا ريس».
امتدت هذه الثقافة إلى المجلس العسكرى الذى كان مستجدا فى التعامل مع المدنيين، فتقدم بالاعتذار فى إحدى بياناته حينما شعر بأنه أخطأ فى حق نفسه وفى حق من ائتمنه قائلا «نعتذر ورصيدنا لديكم يسمح»، وجاء بعدها اعتذار شيخ «غزوة الصناديق» عن خطابه الشهير، واعتذار نجيب ساويرس عن نشره صورة ميكى ماوس السلفى على «تويتر».
وهكذا امتدت الاعتذارات وتشعبت، لكن يبدو أننا نسينا أن الاعتذار ليس نهاية المشكلة، لكنه الخطوة الأولى لحلها، وإن لم يعقبه سلسلة من التصحيحات لنفى أسباب المشكلة التى كانت سببا فى الخطأ، فإنه يعتبر «ضحك على الدقون» ونصبا فكريا وسياسيا، واستخداما وضيعا لآلية شريفة، فما أسهل أن أخطئ فى حقك ثم أعتذر لك دون أن أغير ما بنفسى، ثم أعود إلى الخطأ مرة أخرى، والاعتذار مرة أخرى إلى ما لا نهاية، فلا المعتذر غيّر من نفسه، ولا المتضرر استفاد شيئا.
تماشيا مع حملات الاعتذار هذه، تأتى الحملة الإعلانية لإحدى شركات المشروبات التى كان يعانى مستهلكوها من سوء تصميم غطاء علبها، فقامت مشكورة بتغيير الغطاء، وأعلنت عن أسفها عن معاناة مستهلكيها السابقة، لكن هذه المشكلة لم تنته حتى ظهرت مشكلة أخرى، وهى أن هذا المشروب كثيرا ما يفسد نتيجة حرارة الجو وسوء التخزين، فلم يهنأ المستهلك بتغيير الغطاء، حتى فوجئ فى كثير من الأحيان بفساد المحتوى.
لو قارنت بين كل حملات الاعتذار التى انتشرت منذ بداية الثورة المصرية العظيمة وحملة «آسفين.. غيرنا الغطا» ستجد أن جميع الحملات تتبع سياسة واحدة وثقافة واحدة، ومازالت المشكلات تتفجر واحدة وراء الأخرى، ما يدل على أن نية التغيير لم تكن صادقة تماما، وأن النظام الفاسد المفسد مازال سائدا، وأن أغلب هذه الحملات ما هو إلا مسكنات، والشىء الوحيد الذى تغير هو «حسنى مبارك» بينما بقى الجسد كما هو، وبقيت أمراضه على حالها منتظرة لحظة صدق بين الإنسان ووطنه، لكى لا يقف التغيير عند حدود «الغطا».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة