حتى فى لحظات سقوطه حافظ العقيد معمر القذافى على مواقفه الكوميدية. وهى كوميديا لانظن أنه يقصدها. ومن الصعب أن يتصور عاقل أن تكون خطابات وتصرفات القذافى ومصطلحاته جادة. القذافى ديكتاتور دموى يمارس أشد أنواع القتل ضد مواطنيه، ويصر حتى آخر لحظة فى نظامه، أن يصف الشعب بأنهم» جرذان» وزواحف وفئران وسحالى. منذ بداية الثورة عليه يلعب دور العبيط، ويلقى بخطابات لاعلاقة لها بما يجرى، حريصا على أن يظهر فى ملابسه الغرائبية و«التوك توك» الذى يظهر فيه ويختفى، طوال الوقت يقتل الليبيين، وهو يقدم نفسه أنه الثورى الذى يواجه الرجعية والاستعمار والخونة. يختفى ويظهر ليلقى بالمزيد من المشاهد المسرحية التى تجمع بين الإجرام والبلطجة.
من سنوات بعيدة والقذافى يحتفظ لنفسه بحق الأداء العلنى لغرائب الزعامات ومساخر الديكتاتورات. كتابه الأخضر يتضمن أغرب نظريات السياسة من «الديموكراسية» إلى المرأة «ذكرا أو أنثى». أنفق القذافى على شرح كتابه وتوزيعه وتوليده ما يتجاوز العشرين مليار دولار، حسبما أعلن بعض من كانوا قريبين منه، افتتح مراكز أبحاث باسم الكتاب الأخضر، كلما شرحت الكتاب زادته تعقيدا. وكان يمول مطبوعات وصحفا وأحزابا وفرق كرة عبر العالم، حتى يروج لكتابه الغرائبى. استأجر الخبراء إلى ليبيا ليمدحوا كتبه، ويروجوا لنظرياته الغامضة، وكلما شرحوها ازدادت غموضا.
كان القذافى هو القائد الوحيد فى العالم الذى هدد شعبه بأن يرحله، ويستورد شعبا يفهمه ويستوعب نظرياته، وكانت تهديداته فى حد ذاتها اختراعا. القذافى هو الذى كان يحول النكت والقفشات إلى خطابات. أعلن تسليح الشعب وهو يقتل الشعب، ورفض أن يكون فريق الكرة 11 لاعبا فقط، ودعا المتفرجين للعب.
من الصعب أن يدرك المتفرج ما إذا كان الزعيم معمر جادا.. رجل كان يحكم طوال 42 عاما بالقفشات والنكت والخطابات الكوميدية، دون ملل. اخترع جائزة لحقوق الإنسان منحها للهنود الحمر ولغيرهم. وعين نفسه ملكا أفريقيا، وزعيما عالميا، ورئيسا أوروبيا. واقترح يوما ما حل مشكلة فلسطين وإسرائيل باختراع إسراطين، ونوفالجين. كان من الصعب أن يتبين المستمع إذا كان القذافى جادا أو أنه يقول نكتة، يؤلف فكرة وكتابا أم يزغزغ الجمهور. بملابسه ومظهره وخطابات مثل سيارة لا تعرف ما إذا كانت تسير إلى الأمام أم ترجع إلى الخلف.
كل هذه الكوميديا سوف تختفى مع البلطجى، واختفاؤه سوف يرحم الشعب الليبى من حاكم أخطر من الفيروسات، أهدر أموال الشعب فى مغامرات مملة. وعجز عن تقديم أمر واحد مفيد. دولة غنية بالبترول والثروات، وشعب فقير، ودولة من العالم ما قبل الثالث. القذافى من ديناصورات السياسة قبل التاريخ. سيفتقد العالم كوميديا، وسيرتاح الليبيون من زعيم مكانه الأفضل مستشفى العباسية. ويستحق الشعب الليبى أن يفرح فعلا بعيدا عن بارانويا الزعيم الديناصور.