هل ضبطت نفسك ذات يوم متسائلا: ماذا جرى للناس؟ هل أعربت ذات يوم عن اندهاشك من وضاعة البعض، واستغلالهم للظروف التى تمر بها مصر؟ هل شتمت الثورة بقصد أو بدون قصد، تحت ضغط ممارسات البلطجة العلنية، وتدنى الأخلاق وانتشار القمامة فى الشوارع؟ هل تأففت من ممارسة البعض لهواية الاستمتاع بكسر القوانين والأعراف؟ هل خفت على أولادك وبناتك وأخوتك وأقاربك من أن يحدث لهم مكروه، فلا تجد من يعينك على تحمل المصائب؟ إن كنت من هؤلاء أو من غيرهم فتعالى نستمع إلى هذه الحكاية.
منذ أكثر من نصف قرن، كتب الشاعر الأعمق فى تاريخ مصر صلاح عبدالصبور ديوانه الأول، ولم يكن شاعرنا المتألم المتأمل من الشعراء الذين يتاجرون بالأحداث العابرة، أو المناسبات الحماسية، ليكتسب شهرة جوفاء، أو جماهيرية زائفة، لكنه اختار الطريق الصعب، اختار أن يرصد المظهر حتى يستكشف الجوهر، وحينما يصل إلى المعنى الكامن فى الأشياء، يسرده ببساطة وعمق نادرين، ليصدمنا دائما وليضعنا أمام أنفسنا، معريا ما بنا من ندوب وقروح.
ديوانه الأول حمل اسم «الناس فى بلادى»، وحاول فيه أن يرصد ما بالإنسان المصرى من مفارقات وتناقضات، ملتمسا الحكمة فى الأشياء العابرة، والحكايات البسيطة، والمواقف المتكررة، وما أحوجنا الآن أن نستكشف أنفسنا لنتعرف عليها، بعد أن جعل منا النظام السابق أشباه بنى آدمين، أو أشباه آلات، نهرب من المعرفة، ونخاف من النور، ونفر من الحقيقة، وهى لحظة تكاد تتماثل مع اللحظة التى كتب فيها عبدالصبور ديوانه الأول الذى يقول فيه: الناس فى بلادى جارحون كالصقور/ غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة الشجر/ وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب/ خطاهمو تريد أن تسوخ فى التراب/ ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر.. وطيبون حين يملكون قبضتى نقود.. ومؤمنون بالقدر، هكذا يشرح عبدالصبور الشخصية المصرية، ويصنفها ببراعة واقتدار، فمنا من يجرح كالصقر، أو يغنى كالمطر، أو يضحك محتقنا، أو يمشى متشبثا بالأرض، أو يقتل ويسرق ويشرب ويجشأ، لكننا جميعا نشترك فى الطيبة، إذا ما انفرجت الأزمات، ووجدنا ما يكفينا من متع الحياة ويسرها.
فى مثل هذه الأيام منذ ثلاثين عاما، مات صلاح عبدالصبور، قبل أن يتولى مبارك الحكم بستة أشهر، وللمفارقات فقد أتت ذكرى صلاح عبدالصبور الثلاثين بعد ستة أشهر من خلع مبارك، ومن المفارقات أيضا أن نجد أنفسنا مضطرين إلى مواجهة أنفسنا بنفس ما واجه به نفسه فى ديوانه الأول، واضعا لنا المشكلة والحل فى آن واحد، ولنتذكر جميعا أن «الناس فى بلادى جارحين كالصقور.. لكنهم بشر وطيبون حين يملكون قبضتى نقود.. ويؤمنون بالقدر».