اتفقت الثورات العربية على أن الشعوب أسقطت أنظمة حكم مزمنة، انفردت بالسلطة وأبعدت الشعب وفسدت وأفسدت، أنظمة يفترض أنها قامت من أجل الاستقلال وضد الاستعمار لكنها انتهت بشكل أسوأ من الاستعمار. وتختلف تجربة كل دولة من هذه الدول، فمصر شهدت ثلاثة رؤساء قبل مبارك إذا أخذنا فى الاعتبار الفترة القصيرة للرئيس محمد نجيب، كان لكل من عبدالناصر والسادات تجربته، لكن مبارك كان هو أقلهم من جهة الصراعات التى خاضها، ومع هذا لم يفكر فى بناء نظام ديمقراطى يسمح بتداول السلطة، وكان يمكن أن يدخل التاريخ لكونه حقق الاستقلال الحقيقى مع الحرية والديمقراطية، لم يفعل واستند إلى الاستقرار الأمنى وترك خلال عشر سنوات على الأقل، أمور السياسة والأمن لتيار التوريث الذى كان من الممكن أن يعيد مصر إلى نظام ملكى أكثر سوءا من أى ملكية.
الأمر نفسه بدرجة ما كان مع زين العابدين بن على فى تونس، التقط الحكم من بو رقيبة قائد الاستقلال الذى رفض ترك الحكم حتى وهو فى غياهب المرض والشيخوخة، تكرر الأمر مع على عبدالله صالح فى اليمن الذى أصر على البقاء فى السلطة على أشلاء وحدة شعبه وحريته، وفى سوريا كان بشار هو بداية التفكير فى توريث الحكم داخل جمهوريات العرب، أما القذافى فقد استمر يمارس التجريب فى شعبه طوال 40 عاما، لقد تحولت الأنظمة التى قامت من أجل الاستقلال إلى نوع من الاستعمار الوطنى.
ومن أجل الاستمرار فى الكراسى كان هؤلاء الحكام على استعداد للتواطؤ مع الاستعمار السابق والحالى ليواصلوا البقاء فى السلطة بأى ثمن، فتحولوا إلى أكبر مؤامرة على شعوبهم ولهذا لم تكن الثورات العربية مفاجئة لأنها نضجت على مدى سنوات وغذتها تحولات كانت تجرى فى العالم دون أن ينتبه المتسلطون، وهذا من حسن حظ الشعوب العربية، وأن هذه الأنظمة عجزت عن إجراء ترقيعات من شأنها أن تمتص الغضب.
الثورات العربية هى الموجة الثانية للاستقلال بعد ثورات منتصف القرن العشرين، وهى أيضا الأكثر صعوبة لأنها تحتاج إلى جهد أكبر ووحدة أشد، لإعادة البناء على أنقاض أنظمة ظلت تخرب وتفسد ليس فقط فى المال والنفوذ لكن أيضا فى النفوس.
التسلط أنانى وفردى يصنع حوله نفاقا ويصيب المجتمع بأمراضه مثل الميكروبات، والتخلص منه يحتاج إلى الصبر وعلاج طويل الأمد، قد يستمر سنوات.
ما نراه اليوم فى مصر وتونس وكما سوف يظهر فى اليمن وليبيا، من انتهازية أو فردية وتسلط لدى البعض أو نفاق أو ادعاء بعض من يتحدثون باسم الثورة، إنما هو أعراض فترة النقاهة، التى تسبق الشفاء بشرط المداومة على العلاج، لأن تحييد الانتهازية والتسلط هو بداية الشفاء من مرض التسلط المزمن.