يخاف الطاغية أكثر ما يخاف من الفن، تلقائيا يكرهه ويستبشعه، شىء ما يقول له إن الفن ضد السياسة، والفنان الحق هو العدو فاحذره، يعيش الطاغية فى عالم من القبح والظلمة والاستبداد، بينما الفنان كائن جمالى، يعشق التنوير، ويشترط الحرية أساسا للوجود، الفنان طفل العالم، والسياسى رجل مسن كبير يضيق بالأطفال وجرأتهم وتمردهم وصوتهم الزاعق الغجرى.
لا يحب الطغاة إلا سماع أصواتهم، بينما ينشأ الفنان ليسمع أصوات الناس، يخدر الطاغية ضميره حتى يموت، بينما الفنان يجتهد دائما ليكون ضميرا للأمة، يشحذه ويستقوى به على قهر القاهرين وانتفاع المنتفعين، يمسك الفنان قلما أو ريشة، ويمسك الطاغية بندقية وأحيانا دبابة، تتحول الوردة فى يد الطاغية إلى أسلاك شائكة ترتعد خوفا وألما، بينما يتحول السيف فى يد الفنان رقصة ماهرة يبهر بها الحاضرين، تتكرر هذه الثنائية دائما، فلا الطاغية يعدل، ولا الفنان يتوب.
احتدم صدام بين الفنانين والطغاة فى ثوراتنا العربية، فما كان من كل فريق منهما إلا أن يفعل ما هو خليق به، والأمثلة أوضح من أن نعددها، لكن فى كل من ليبيا وسوريا يتضح المثال وتبرز المفارقة، ذلك لأن الله رزق هذين البلدين المسالمين بطغاة مثاليين، ومَن أبشع من طاغية مأفون كالقذافى، ومن أقسى من ديكتاتور غبى ومكابر كبشار؟
فى المقابل، كان الفنان واقفا فى المعركة، سحقا لمن يدعى أن المثقفين والفنانين غير ملتحمين بالواقع، ولا مهمومين بأحلام الوطن، هم يصنعونها ويبشرون بها ويحققونها إن لزم الأمر، كان الشاعر ربيع شرير فى ليبيا فى مقدمة صفوف ثوار الزاوية، ولما اشتد العصف والقصف والإجرام اعتقلته مليشيات القذافى، وأتوا به إلى شاشات التليفزيون ليجبروه على الاعتراف بالخيانة تحت وابل من الضرب واللكمات والتعرض بالأذى للأهل والأصدقاء، كان ربيع المسجى كطفل كسير أقوى ألف مرة من ضربات الجلادين، كان معروفا بينما ضارِبوه نكرات، كان واحدا بينما معذبوه كثر، فاختفت الصورة بعد أن قال آه، كانت مبتورة، مترنحة، لكنها أشعلت فى النفوس ما أشعلت.
فى سوريا كان الوضع أسوأ، فطاغية الشام الأكبر لا يعترف بالتهديد والتعذيب والاعتقال، تلك أشياء تقليدية بالنسبة لعتاة الإجرام أمثاله، هو يذهب مباشرة إلى التصفية، قطع حنجرة المطرب إبراهيم قاشوش وألقى به فى الشارع ليرهب من يتجرأ على انتقاده، ثم تجرأ على صاحب المقام العالى رسام الكاريكاتير السورى الكبير على فرزات وكسر أصابعه لكى لا يرسم ما يغضبه مرة أخرى، لا يحتاج المحللون إلى تنظيرات معقدة لإظهار مدى كره بشار للفنون، فها هو يذهب مباشرة إلى الحنجرة التى تصدح، واليد التى ترسم.
أول أمس هاتفت الشاعر الليبى ربيع شرير لأطمئن عليه بعد أن تحرر من قبضة الديكتاتور الهارب، كان صوته نديا وعفيا رغم ما بجسده من كسور وجروح، يكاد الفرح يقفز من حنجرته بعد أن نصر الله أصحاب الخيال الجمالى الراقى، وها هو ينظر إلى العالم بدهشة مستعدا لكتابة قصيدة، أما الفنان الكبير على فرزات فقد رسم لوحة يهزأ فيها من بشار وأفعاله، لتتأكد المسلّمة التاريخية المتكررة: يعيش الفن فى عليائه شامخا، ويسقط الطغاة فى قعر التاريخ متوجين ببصقة.