لا يمكن الاختلاف حول حقيقة الفوضى التى تسود الإعلام المصرى، وعدم المسؤولية واللامهنية التى يمارسها بعض الفضائيات وكثير من الإعلاميين، فضلا عن غياب الشفافية والإفصاح عن مصادر التمويل. ولايمكن الاختلاف أيضا على أن الحكم الجديد مسؤول عن هذه الفوضى، فقد أطلقت الثورة حرية الإعلام دون أن يبادر الحكم بتنظيمها، وعندما أفاق متأخرا استعار حلولا فاشلة من عصر مبارك، فأعاد الحياة لوزارة الإعلام التى ليس لها وجود فى أى بلد ديمقراطى، ثم أصدر قبل أيام قرارات عاجزة لن تنجح فى تنظيم الإعلام، بل ستؤدى إلى تقييده، والقضاء على حرية الإعلام، لأنها ببساطة تنتمى للماضى وتعيد إنتاجه، فإيقاف إنشاء قنوات جديدة، وتفعيل نصوص قديمة، هو منهج عاجز وقاصر، ولا يتماشى مع الوقائع الجديدة التى خلقتها الثورة وتكنولوجيا الاتصال والإعلام، الأمر الذى يؤكد أن النظام لم يتغير، فالعقليات باقية، ومناهج التفكير والعمل القديمة مستمرة، رغم الثورة والتغيرات العميقة التى أحدثتها فى المجتمع، وفى وعى المصريين.
الجمهور المصرى ليس هو جمهور صفوت والفقى، ووسائل الإعلام الجديدة عبر الإنترنت أصبحت منافسا قويا للصحف والتليفزيون، وعدم السماح بظهور قنوات جديدة سيدفع أصحابها- وببساطة شديدة- للعمل من خارج مصر، فتكنولوجيا الاتصال تسمح بذلك، وبتكلفة معقولة، مما يلحق أضرارا بصناعة الإعلام فى مصر، والأهم رأس المال الرمزى لمصر، كمنارة للثقافة والديمقراطية، وحرية الإعلام بعد الثورة.
كانت إدارة النظام الإعلامى فى عصر مبارك تعتمد على الأمن، والعوامل الشخصية، فمباحث أمن الدولة تراقب وتضغط وتهدد، ووزيرى الإعلام والأمن يمنحان تصاريح إصدار الصحف والقنوات بحسب الولاء والعلاقات الشخصية، والرشاوى المالية والسياسية، أى أنه جرى بتعمد وبشكل ممنهج تغييب القوانين المنظمة للإعلام، لذلك رفض النظام إصدار قانون موحد للبث الإذاعى والفضائى، واكتفى بتبعية القنوات الفضائية لهيئة الاستثمار، والتى خولها حق اتخاذ الإجراءات القانونية ضد القنوات التى تثير الفتن والشغب، وتحرض على العنف، وهى عبارات عامة ومطاطة يمكن أن توظف ضد أى قناة لاترضى عنها السلطة الحاكمة.
غياب الخيال السياسى والإعلامى، ورجعية التفكير، والعجز، وعدم فهم معنى الثورة ومتطلباتها، والخوف من تأثير الإعلام.. كلها عوامل قد تفسر قرارات الحكومة والمجلس العسكرى ضد الفضائيات، لكن بالقطع لايمكن ادعاء أن هذه القرارات ستنظم الساحة الإعلامية، وتعيد إليها الانضباط، وتضمن فى الوقت نفسه حرية الإعلام ومصلحة الوطن. فالقرارات الأخيرة اعتمدت آلية إيقاف ظهور قنوات جديدة، وهو أسلوب العاجزين لأن الإيقاف لم تحدد مدته، وبالتالى قد يستمر ويصبح القاعدة، وقد تتهم هيئة الاستثمار – ليست مختصة فى الإعلام - أى قناة تخرج عن رضا الحكومة والمجلس العسكرى بالتحريض وإثارة الفتنة إلى آخر تلك العبارات الغامضة والمطاطة.
مطلوب إصدار قانون جديد ينظم الساحة الإعلامية، قانون يعبر عن حوار مجتمعى حقيقى، ويعالج فى شجاعة كل الأوضاع المغلوطة والمختلة التى عاش فى ظلها الإعلام المصرى لعقود طويلة، قانون يضمن حرية واستقلال المصرى، وقد سبق لى ولعشرات من خبراء وأساتذة الإعلام تقديم مقترحات حول هذا القانون، وضرورة تشكيل مجلس وطنى من شخصيات مستقلة، يتولى التدقيق فى مدى التزام وسائل الإعلام بالمعايير المهنية وموايثق الشرف، والتدقيق فى مصادر التمويل. لكن لا أحد اهتم من رجال الحكم الجديد، وإنما ادعى بعضهم أن إصدار قانون جديد للإعلام لن يُرضى كثيرا من الإعلامين والسياسيين، وبالتالى من الأفضل الانتظار حتى يقوم برلمان منتخب بمناقشة أوضاع الإعلام، وسن قانون يتمتع بشرعية وقبول اجتماعى. وهذا كلام حق يراد به باطل، لأننا لانعرف متى ينتخب هذا المجلس، ومتى يتمكن من سن قانون جديد للإعلام، ثم إن إصدار قانون مؤقت لتنظيم أوضاع الإعلام لا يعنى بالضرورة أنه غير شرعى أو أنه قانون غير ديمقراطى، بل من الجائز أن يتبناه مجلس الشعب الجديد، أو يدخل عليه تعديلات محدودة. القصد أن قانون الإعلام المؤقت – وغيره من القوانين – قد يمثل مسودة أفكار وممارسات أمام مجلس الشعب الجديد. من هنا أؤكد رفضى لمنطق التأجيل الذى يضيع الوقت والجهد، ويهدد نجاح المرحلة الانتقالية، لأنه أنتج كوارث سياسية وأمنية واقتصادية خلال الأشهر الستة الأخيرة، وتكفى الإشارة هنا إلى أن عدم إصدار قانون الغدر، وإجراءات التطهير، وضمانات نزاهة الانتخابات قد أطلقت يد فلول النظام وأصحاب الشعارات الدينية لتجهيز الساحة السياسية من أجل تحقيق فوز كبير بمقاعد البرلمان الجديد. كما أن التأجيل فى التحليل الأخير هو منطق العاجز الذين يتهرب من مواجهة المشكلات ويتركها تتفاقم حتى تصل إلى مرحلة الفوضى، ثم يشعر بالأزمة فيلجأ إلى حلول متعجلة ومضطربة تقود إلى كوارث.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة