القول إن «مصر ولادة» قد لا يكفى لوصف هذا الجمال الرائق لتلك الحالة الفنية الصافية، إذ لا بد أن نضيف إلى هذه المقولة الشهيرة شيئا يظهر ما بهذا المولود من روعة وبهاء، فمن وجهة نظرى فإن تجربة حازم شاهين الموسيقية جديرة بأن يشار إليها باعتبارها نواة مشروع لموسيقى عظيم، قد يساهم فى الارتقاء بالوعى الفنى والجمالى على حد سواء.
أنصحك إن ضاقت بك الدنيا أو علقت بحلقك مرارة أن تستأنس به، ففى مقطوعاته المختلفة سواء «حاجات وحشانى أو مشكلة، أو حصان درويش، أو تقاسيم أو مراهقة» يتحدى شاهين الزمن، ولديه قدرة كبيرة على الارتقاء فوقه والتعالى عليه أو الانغماس فيه، شيخ صوفى يبتكر لنفسه أحوالا وأزمانا وأمكنة، قادر على أن يخرجك مما يحيط بك، لك أن تعيش فى زمانه أو تبتكر لنفسك زمانا ومكانا، يتقلب بين الدقائق واللحظات برشاقة ولوعة، معه تشعر بتتابع الثوانى والساعات المتكرر الممل المتقلب العاصف، وكأنها جزء من معزوفة كونية تحسبها خاصة بك، وهى تخصه وحده، ينتقل شاهين بين الحالات والأحوال والمواجد برشاقة.. روح هائمة لا تعترف بالحدود والمعوقات.
بقدر جمال المقطوعات يأتى جمال التوزيع الموسيقى، تعزف الآلات من كونتر باص وبيانو وعود وإيقاعات بتواز وتناغم فريد، كل آلة تذهب إلى جملة لحنية مختلفة، ثم يكون الاتحاد فى نهاية متصاعدة، وكأنه يقول إن الحالات الإنسانية مهما تباينت وتفرقت واحدة، حتى إن اختلفت الأعراض، يدهشك بمدى صدق الخيال الموسيقى واتحاده وتفرقه فى ثنائيات أو ثلاثيات قد لا يقدر على الإمساك بها إلا أولو العزم من الملهمين.
هو اختار العود ليكون «لسان حاله» وطريقه إلى اكتشاف العالم، فارتبط بتلك الآلة الأصيلة فى حالة روحية عفية وإيجابية وخلاقة، معه تتحول تلك الآلة إلى حصان جامح منتش بمهارة فارسه ورحمته به وسطوته عليه، معه ينبت للعود أجنحة يأخذه بها إلى السماوات العلى، ثم يتحول ليصبح العود شجرة صبار مغروسة فى أعماق الأرض ومرارتها، ثم يرتاده كغيمة خصبة، ويتقبله كحبات المطر المتلألأة، أو كنهر صاف ماؤه عذب زلال هنيا للشاربين.
الأصالة فى المنبت والمنشأ والمنبع والمصب هى ما تميز شاهين باقتدار، إذ يجمع برشاقة لافتة بين أسى الموال وانكساره وبهجته وانتصاره، متمثلا لموروثه الفنى العامر بنضج كبير، فمنه صنع شخصيته وإليه أضاف من موهبته، انسيابى فى التنقل بين المقامات ليصنع حالات لوحاته الكونية العميقة، ترقص النغمات بين يديه رقصات سكران بالنشوى والذكرى والوجع العميق الأليف الأليم الحميم، تقلب الروح على إيقاعاتها فتخرج من بين ثناياها آهات لا تعرف إن كانت حبلى بأشواك أم مكللة بالياسمين، تتزاحم الأفكار فى رأسه فيسرسبها نغمة إثر نغمة، يرى العالم موسيقى، وتراه الموسيقى ابنا بارا وأبا يافعا، ترى الأنغام بين يدى شاهين وكأنها تخرج لأول مرة، خفيفا خفيفا يسرى إلى الروح ويعرج بها، فلا تعرف إن كانت غادرتك للمرة الأخيرة أم انسربت إليك للمرة الأولى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة