كثر الحديث فى هذه اللحظة التاريخة التى تمر بها البلاد عن «هيبة الدولة» وأهمية إعادتها، ولست بالطبع ضد حق العودة الذى تطالب به «الهيبة»، لكنى أرى أن المطالبة بعودة «الدولة» أهم وأولى من عودة «الهيبة» وشتان بين الحقين.
ولأن «الموضوع كبير أوى»، ويتطلب شرحا وإيضاحا لفكرة الدولة ومشتملاتها، سأختصر الكلام فى تفصيلة صغير من محور واحد من المحاور والمرتكزات التى ينبغى توافرها فى الدولة، ألا وهو تكافؤ الفرص، فمن المفترض أننا جميعا أمام «أمنا الدولة» سواسية، وأننا أولادها، توزع علينا الطعام والملابس والحنان والرعاية بالتساوى، وإن فعلت غير ذلك تنتفى عنها صفة الأمومة، وهو الانتفاء الذى جعل كاتبا جميلا كأسامة غريب يطلق صيحته الشهيرة أثناء وجود مبارك ويقول «مصر دى مش أمى دى مرات أبويا» ولذلك سأوجه إليك سؤالا واحدا لتعرف إن كان النظام تغير أم لا: هل تشعر أن مصر أمك أم «مرات أبوك»؟
فرق كبير بين «أمنا الدولة» و«أمنا الغولة» فالأولى تتمتع بالحزم وسيادة القانون والعدالة المطلقة والمعايير الواضحة الصارمة فى توزيع الفرص، أما الثانية فتتمتع بأسنان حامية تنهش من يقابلها، وجلد خشن يؤلم من يمسسه، ومخالب دامية تجرح من يقترب منها، وعيون قاسية تزجر المواجهين، وقلب لا يرحم المحتاجين، ولأن «مصر بعد 25 يناير غير مصر قبل 25 يناير» كما يقول البعض، فمن حقى أن أسألك: فى أى صورة ترى مصر الآن: دولة أم غولة؟ أم غولة أجرت عملية تجميل فأصبحة «غولة متدولة»؟ أم دولة مختلة المعايير فكانت دولة متغولة؟
أعرف أنى أرهقتك بالأسئلة، لكن عذرى أنى رأيت منذ قليل أحد إخوتى «المصريين» واشتكى لى من واقعة حدثت له فأجهضت أحلامه بأن يكون جنديا يخدم وطنه بأمانة وإخلاص، أخى الذى لا أعرفه، صدق أن مصر تغيرت، وأن «بلده محتاجة له» وأن الدولة فى أمس الحاجة إلى أبنائها الشرفاء ليصبحوا رجالا يقفون أمام الانفلات الأمنى بصرامة وحزم أو يحرسون الحدود بشجاعة واستبسال، فتقدم بأوراقه إلى كليتى الشرطة، لكن سعيه خاب وأمله راح سدى، لأنه فوجئ بحجر «الواسطة» يقف أمامه ويخرج له لسانه، قال لى: لم أكن لأحزن لو كنت سقطت فى الاختبارات، فعلى الأقل كنت سأعرف ما ينقصنى أو يعيبنى، لكنى فشلت فى اختبار لم أخضه، كان يحكى لى تلك الحكاية باستفزازاتها وهو يكاد يبكى، فتخيلته يعرض آثار مخالب «أمنا الغولة» التى ارتمى فى أحضانها، فناله من الآلام ما ناله.
قبل أن «نلت ونعجن» فى الكلام عن هيبة الدولة، لابد لنا من الأساس أن نرسخ المفاهيم والممارسات والإجراءات التى تجعل أبناء مصر يشعرون بالدولة حقا، وأن أمهم عادلة وحنونة وطيبة، ومن أولويات إصلاح الجهاز الإدارى لمصر أن تتوافر المعايير العادلة فى شغل الوظائف الحكومية والتقدم إلى الكليات والوظائف الحيوية، ليشغل المجتهدون والمتميزون الأماكن التى تليق بهم، دون النظر إلى الحسب والنسب، أو الواسطة والمكانة، تلك أمور تبدو بديهية وطبيعية فى الأوطان الحقيقية والدول الحديثة، ومجرد الحديث عنها يدل على أننا فى مرحلة ما قبل «الدولة».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة