لدينا سياسيون وليس لدينا سياسة، وعندنا «مكلمات» وليس عندنا كلام يمكن التعويل عليه، ولدينا نجوم وليس رجال سياسة. وبالطبع فإن التعميم غير جائز، لكن النتيجة النهائية التى نصل إليها عادة هى أننا نعود إلى نقطة البداية كل مرة، وكأنك «يا أبوزيد ما رحت ولا جيت».
وهناك انتقادات كثيرة يمكن توجيهها إلى النظام السياسى المؤقت سواء المجلس العسكرى أو الحكومة، وكلاهما يحرص على العمل فى «غرف مظلمة»، بنفس الطريقة السابقة التى تجعل الشعب معزولا عن المشاركة فى اتخاذ القرارات التى تتعلق به وتخص حياته ومستقبله. كما أنهم يستندون فى اختياراتهم للحوار على نجومية الظهور، وليس على أهمية الطرح. فإذا ألقينا نظرة على الوجوه التى تشارك فى حوارات الغرف المظلمة، نجدها هى نفسها التى كانت تشارك فى حوار ما قبل تنحى مبارك، وحوارات ما قبل الاستفتاء وما بعده ومازالوا يواصلون التواجد فى كل محفل.
ولهذا نشاهد كل هذا الكم من التناقض والتضارب فى الآراء، التى يراهن أصحابها على الذاكرة الضعيفة للناس. ثم نرى بعض الأكاديميين انتقلوا إلى خانة السياسيين والإعلاميين فى خلطة، تضيف المزيد من الكلام والجدل البيزنطى، لأنها تجمع بين متناقضات فى المواقف، فالأكاديمى يفترض فيه الحياد العلمى، بينما السياسى يحرص على إرضاء كل الأطراف، فنراه يجامل الثورة والمجلس العسكرى والجمهور، أما الإعلام فهناك رغبة فى الاستعراض، وبالتالى فإن التناقض يصبح نتيجة طبيعية، لتناقض المواقع التى يشغلونها. والتى يفترض أن يكون لكل منها حساباتها.
ومن هنا سوف نجد التصريحات المتناقضة للسياسيين الجدد، فإذا كانت هناك مليونية تراهم يحرصون على إرضاء المليونية، وإرضاء المجلس العسكرى بإطلاق بعض الانتقادات ومن أجل السياسة يتركون الباب مفتوحا مع الجميع. ولهذا رأيناهم حائرين بين مجاملة الأمن أو الألتراس، ومن قبل رأينا تناقضاتهم فى الحديث عن الانتخابات والدستور، وما فوق الدستور وماتحت الدولة وما بين الماضى.
والقضية ليست فى الآراء لكن فى التناقضات والابتعاد عن المستقبل، ونقل الجدل إلى قضايا فرعية تتجاهل مايريده الناس. هناك أغلبية - يدعون أنها صامتة - تطلب الأمن والمساواة والتعليم والتوظيف والعلاج، هناك أغلبية لاتزال تعانى من كل أعراض النظام السابق، من الفقر والظلم، والعشوائية. لكن «كائنات السياسة الفضائية»، مصرون على جر الناس إلى جدلهم ومطامعهم ويفرضون عليهم من خلال الفضاء قضايا يصعب حسمها.
هذه الحروب الوهمية التى يخترعها نجوم وزعماء» الكلام المدهون بزبدة»، ليست هى القضايا الأكثر أهمية. لكن هذا الجدل للأسف هو مايدر عليهم أرباحا صغيرة بصرف النظر عما ينتجه من تشتيت ومعارك وهمية، لا تخص غيرهم. انهم سياسيون بطعم «كاذب»، يقولون كلاما يحمل كل الوجوه، يربحون منه، ومن نقيضه. ولا يربح المستقبل.