من غير المتصور النظر لاقتحام السفارة الإسرائيلية من منظور التفسير الضيق، والأقرب وهو "الأفعال الغوغائية".. وكلما كان التفسير أسرع كلما تاهت الحقائق والقراءات فيما بين السطور، بحيث يصبح العثور عليها مثل البحث عن قطعة نقود معدنية وسط كومة من القش، فما بالنا إذا كانت كومة القش نفسها مشتعلة وتصهر بداخلها كل من يحاول الاقتراب منها، ونعنى بها هنا الحالة الثورية.
بداية ينبغى أن نقر ونعترف بعبقرية وبراعة وسعة أفق من عكفوا على كتابة وإخراج وتنفيذ ذلك العمل الدرامى الذى يتجاوز قدرات أبرع كتاب الدراما التركية والمصرية معاً.. لكنه يبقى فى النهاية عمل درامى لا يرقى لمستوى الفعل السياسى بعد، وربما يمكن من قراءة رسائله أن نشير إلى من صنعوه حتى ولو اجتهدوا بعقولهم الفذة فى إخفاء آثارهم بنجاح، فاقتحام أى سفارة هو عمل سياسى بامتياز، وتفسيره يجب أن يبقى فى هذا الإطار، ولا يمكن الاكتفاء بنسبه لحالة تشنج ثورى.
الرسالة الأولى: التى يجب التوقف أمامها مطولا، وتسلم إلى الداخل بعلم الوصول والاستلام، تمنح السلطات تفويضا بالقتل لكل من يفكر فى لحظة ما أن بوسعه تحريك الشارع مجدداً أو السيطرة عليه، وأن الانفلات المسرحى الذى جرى يمكن تحويل مساره ليحرق أصابع أصحاب دعوة التاسع من أيلول الأسود بزعم تصحيح المسار، واتهامهم كما سيجرى فى وقت لاحق بتلقى توجيهاتهم من الخارج ومن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى على وجه التحديد.. وهو شرف يدعوه وتهمة إن أنكروها فسوف يصعب أن يصدقهم أحد.
الرسالة الثانية: وتسلم على استحياء إلى الولايات المتحدة من خلال ربيباتها إسرائيل للتذكير بمشهد تاريخى صنعته طهران فى نهاية السبعينات من القرن الماضى، عندما أقدم الثوار على اقتحام السفارة الأمريكية، واتخاذ رهائن من أعضائها، والمسح بواشنطن أرضاً، عندما حاولت تحريرهم فى عملية فاشلة، وبالتالى إذا ما أصرت واشنطن على إشعال الداخل المصرى بعلاقاتها المتشعبة بأطياف الثورة وبما تقدمه من تمويل معلن قد يتحول فى لحظة ما إلى حريق يمسك بأصابعها ومصالحها فى المنطقة، ولن يتوقف عند اقتحام السفارات.
الرسالة الثالثة: وهى جملة الاتهامات العصبية المتلاحقة لأطراف عربية دأبت على تسخير منابرها الإعلامية فى التحريض على المجلس العسكرى تحديداً، رغم أنه لم يعد للنظام السابق وجود حتى نبرر مواقفها العدائية التى تهبط لمستوى الثأر الشخصى دون الموضوعية الإعلامية، وهى قد تكون كبش فداء مصطنع إذا ما أدركنا بحسابات بسيطة أن الضغط التركى المصرى المتصاعد على إسرائيل لابد أن يعنى بالضرورة رسالة مبطنه تدعو إلى تخفيف الضغوط الأوروبية والأمريكية عن البعث السورى فى محنته الجارية، إذ أن التغيير فى دمشق قد يأتى أيضاً بمن يرغب فى الهجوم على إسرائيل، لتصبح تل أبيب على مرمى حجر من أنقرة والقاهرة ودمشق، وتنشغل عن مهاجمة إيران أو التحريض على برنامجها النووى.. وهنا يكون الاقتحام عمل يستهدف تخفيف الضغط الدولى عن سوريا بنكهة إيرانية.
الرسالة الرابعة: وربما لن تكون الأخيرة موجهة إلى كل أعضاء النظام الإقليمى الفاعلة، والتى تمارس المزايدة على الدور المصرى، وهى أن مصر التى خاضت ثلاث حروب (56، 67، ثم حرب الاستنزاف، وأخيراً حرب التحرير فى 73) لا يمكن لأحد أياً كان أن يستبدل دورها فى المنطقة فى لحظة انشغالها بترتيب البيت الداخلى، ومن غير المقبول استمرار الامتهان من الصبر المصرى على خلط الأوراق الدائر فى الإقليم منذ نحو 30 عاماً أو أكثر، وأن خطا وهميا أصبح يفصل بين مصر ما قبل 25 يناير وما بعدها، وأن المشهد الهجومى على حائط العار هو إشارات ذات مغزى لجدار الفصل العنصرى بالأراضى المحتلة الذى بات انهياره وشيكا فى جمعة أخرى قادمة للشواكيش.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة