«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلنا بحمد الله إلى مطار القاهرة الدولى حيث التوقيت المحلى كذا ودرجة الحرارة كذا، كابتن فلان الفلانى عضو ائتلاف الثورة يحييكم وطاقم الطائرة». هذه كانت العبارات التى قالها قائد إحدى طائرات مصر للطيران لركابه فى رحلة قادمة من سويسرا إلى القاهرة، أى والله، وهو ليس خيالاً أو افتراء ولكنه واقع. فالرجل رأى أن كلمة كابتن الطائرة وقائدها لا تكفيه كتقديم لنفسه، فأضاف إليها صفة أخرى رأى أنها بالتأكيد ستميزه لدى الركاب وربما تصور أنها ستدفعهم للهتاف له وحمله على الأعناق باعتباره أحد محررى الوطن من الطغاة، وربما ظن أن جزءًا أصيلاً من حقه أن يخبر على الأقل الركاب الذين أقلهم بسلام من قارة لأخرى بأنه واحد من هؤلاء المميزين، حتى لو لم يكن يظهر على شاشات التليفزيون والصحف المختلفة بسبب ظروف عمله، ولِمَ لا؟ أليس هذا هو ذات المنطق السائد الآن فى كل وسائل الإعلام دون استثناء؟ وأكررها: دون استثناء.
كنا قبل يناير 2011 حين يتم تقديم أى متحدث لنا كقراء للصحف أو مشاهدين للتليفزيون يتم عادة تعريفه حتى لو كان شخصية عامة نعرفها مسبقًا مثل مسؤول أو فنان أو أديب.. إلخ، فكان يُقدم مثلاً باعتباره الدكتور فلان الذى يعمل فى وظيفة محددة، أو المهندس أو المحاسب، المهم كان ضيوف البرامج والموضوعات الصحفية يُقَدمون للمتلقين حسب مهنهم وأوضاعهم الوظيفية، ولكن منذ ثورة يناير لم تعد مثل هذه المواصفات لتقديم الضيوف ذات قيمة، بل دخلت على الإعلام كلمات جديدة سحرية لتقديم الضيوف وجودها يجُبُّ أى تقديم آخر، مثل الناشط السياسى، أو ناشط فى مجال حقوق الإنسان، أو عضو ائتلاف الثورة، أو خبير استراتيجى.
ولم يعد أحد من السادة الإعلاميين والصحفيين يكلف خاطره، ولو قيد أنملة، بتعريفنا نحن المتلقين بمن يكون سيادته الذى يصول ويجول فى الحديث غالبًا باسمنا، فيكفينا أنه ناشط سياسى أو أى من المهن المستحدثة التى ذكرتها سابقًا، ومن الغرائب أيضًا التى لم تعد كذلك أن نشاهد ضيفًا أو متحدثًا يقدمونه لنا باسم عضو ائتلاف الثورة دون أن يكلف أحد نفسه أن يقول لنا أى ائتلاف هذا، فهناك المئات منها، وكم عدد أعضاء هذا الائتلاف على الأقل لنعرف كمشاهدين باسم من وباسم كم يتحدث هذا أو ذاك الضيف.
السادة الإعلاميون وهم يفعلون ذلك يلغون, دون وعى، أو بوعى، وهو مصيبة فى الحالتين، حق المشاهد والشعب فى معرفة الضيف، وبالتالى التأثر به سلبًا أو إيجابًا، وأتمنى ألا يرد على أحد قائلاً وتعرفيه ليه بالتفصيل؟هو عريس؟ لأنى سأجيبه بمقولة خالدة فى عالم الإعلام وهى: من يقول ماذا؟ ولمن؟ وبأى طريقة؟ وما أذكره ليس بدعة أو تقليلاً من شأن أصحاب هذه الوظائف الجديدة فى المجتمع المصرى، ولكنه تقليد إعلامى متبع فى العالم، فجين فوندا سيدة البحث عن حقوق الإنسان فى العالم حين تظهر على الشاشات يكتبون تحت اسمها الممثلة والناشطة الحقوقية، لأن فى كل العالم الإعلام يدرك معنى المقولة التى سبقت الإشارة إليها.
ولكن فى مصر الآن صارت حقوق الإنسان مهنة، وائتلافات الثورة وعضويتها مهنة، والنشاط السياسى مهنة، أما الخبير الاستراتيجى فهى أيضًا مهنة، وأتمنى على الله أن يجيبنى أحد، أى أحد ما هو بالتحديد تعريف هذه المهنة المبهمة المعالم. ولكن متى وجدت أحدًا يجيبنى عن تساؤلات عشت عمرى فى الصحافة أسألها دون مجيب قبل الثورة، حتى أجد الآن فى حالة الفوضى التى نعيشها إجابة شافية عن سؤال بسيط؟ كل الظواهر فى مصر تبدأ على استحياء ثم تستفحل، وحينها فقط نقف لنتساءل بعد أن يكون الأمر فسد تمامًا. وتوصيف الناس بالناشط والخبير وعضو الائتلاف بدأ على استحياء فى بدايات الثورة، ولكنه الآن صار ظاهرة تستوجب أن نتذكر المقولة الشهيرة لملك ملوك أفريقيا المأسوف على شيخوخته القذافى «من أنتم؟» قبل أن نجد غدًا من يسير على درب السندريلا سعاد حسنى ويغنى لنا أو علينا ما تقولش ناشط حقوقى اسم الله ولا خبير استراتيجى، كنوع من الكيد لأمين الشرطة أو الدبلوماسى.