كانت فرحتى غامرة حين أوقفتْ لجنةُ مرور سيارةَ التليفزيون التى تقلّنى إلى بيتى، لأن زجاج السيارة «فيميه».. ورغم محاولات السائق إقناع الضابط بأن عمله يحتم عليه توصيل مشاهير من وإلى التليفزيون، والزجاج الغامق يحمى خصوصيتهم، فإن الضابط، بكل رقى وتهذّب، لم يعطه الرخص إلا بعدما أقرّ السائقُ بسرعة تصحيح الخطأ. اندهشتُ من نفسى لفرحتى بعودة «قانون الطوارئ»، الذى ظللتُ لسنوات أناهضه فى مقالاتى وحواراتى! هذه لحظتُه المناسبة بعد الانفلات الأمنى الرهيب الذى يقضّ مضجعَ مصر على أبنائها الذين يطاردهم نصفُ مليون بلطجى، يتجولون بين أروقتها، يهددون الآمنين، ويبدّدون الممتلكات. لم يكن من مبرر له طوال العقود الماضية، لذلك ناهضناه. لكننا الآن فى أمسّ الحاجة إليه، لاسيما مع بنوده الجديدة المحترمة التى لا تتقاطع مع التعبير عن الرأى على النحو الراقى المهذب. والتهذّب فى القول أول مبادئ حرية الرأى، فبوسعك مساجلة الشيطان ذاته، دون تجاوز فى القول، أو انفلات فى اللسان.. بل إن التهذّب فى النقد، والنقض، يُقوّى موقفَ الناقد، ويكرّس فكرة أن لديه ما يقوله.. عكس السباب الذى لا يأتى إلا من فقير الحُجّة، ضعيف المنطق، الذى يلجأ إلى سدّ ثغرات منطقه بالتجاوز والتطاول وعلوّ النبرة.
هو عين ما يفعله أصدقاؤنا من التيارات الدينية فى اللجوء إلى السباب الحاد لكل مَن يخالفهم الرأى، أو العقيدة، والتلويح الدائم بكارت التكفير، كأنما أخذوا توكيلاً من الله، حاشاه، أن يمنحوا النعيمَ مَن شاؤوا، ويمنعوه عمن شاؤوا! ينسون دائمًا أنهم عبادٌ لا أوصياء ولا آلهة! ولا شك أن لله تعالى حساباتٍ أخرى لا تصل إليها عقولنا المحدودة العاجزة. يُغلظون القولَ لأبناء العقائد الأخرى، ولمَن يخالفهم الرأى من أبناء عقيدتهم. وينسون قوله تعالى: «فذكر إنما أنت مُذكر لستَ عليهم بمسيطر».. فإن كان الرسولُ قد أقرّ على نفسه بالتبشير الهادئ الحسن، وعدم السيطرة على الناس، فكيف يمنحون لأنفسهم ما حرّمه اللهُ على رسوله؟!
صدّعوا رؤوسَنا، ومازالوا يروّعوننا، باستفتاء مارس الذى حُسم لصالح الإبقاء على دستور مهترئ وجائر. بعد التضليل الذى مارسوه على الناس: «أخضر= جنة، أسود= نار | أخضر= مسلم، أسود= والعياذُ بالله كافر!».. ودائمًا ينسون الإعلانَ الدستورى الذى أبطل ذلك الاستفتاء مع نهاية الشهر نفسه! ناهضوا، وكفّروا، تظاهرة «تعديل المسار» 9 سبتمبر، بزعم أن الثورةَ حققت معظم المطالب!! ينسون فقط أن يضعوا ضمير المتكلمين: «نا»، فتغدو الكلمة: «مطالبـ(نا)- نحن فصيل التيار الدينى». الانتخاباتُ قبل الدستور! والانتخابات بسرعة بسرعة «قبل ما تلحق بقية الأحزاب تقف على قدميها»! لكن الثوارَ ما خرجوا فى يناير وسبتمبر إلا لتحقيق مطالب شعب كامل، لا مطالب فئة تحمل، زورًا، كارت الدين، وترى أن مَن يخالفها فقد خالف الله! الثوارُ يريدون إعلاء قيمة الإنسان المصرى بقيم حاكمة للدستور، أقرّتها الإنسانيةُ منذ شريعة حامورابى، تنادى بالعدل والمساواة. الثوارُ لم ينسوا دمَ الشهداء الذين لم ينل أهلُهم حتى الآن حقوقَهم، ولم ينسوا أن البلطجةَ ترعى بين جنبات مصر. ولم ينسوا أن المجلس العسكرى يحاكِم عسكريًّا مَن يجب أن يُحاكَم مدنيًّا، والعكس. ولم ينسوا إخوانهم سجناءَ الرأى خلف قضبان العسف. ولم ينسوا أن الثورة قامت من أجل كرامة المواطن المصرى الذى تُهانُ كرامته حتى الآن.. ولم ينسوا أن ترويع الأقباط مازال يتكرر كلّ يوم، ثم ينتهى بجلسة عُرفية وقحة، تشبه قُبلة يهوذا التى سلّمت المسيحَ للظالمين. لم ينسوا أن بقايا النظام الفاسد، مازالت ترعى على مقاعدها. لم ينسوا أن الثورة تُجهض، فخرجوا وصنعوا لنا تلك التظاهرة الراقية.. تلك التى لم ينتقص من جمالها إلا أحداثُ نهاية اليوم فى مديرية أمن الجيزة والسفارة الإسرائيلية، فى مشهد غير حضارى لا يليق بمصر. ولكن، يبقى سؤال: مَن المسؤول الذى وافق على بناء سور، يعلم كلُّ طفل فى مصر أنه سيفجّر الغضبَ العارم بين صفوف الشعب؟ نعم، هدم السور خطأ، ولكن ألم يكن بناؤه خطأ أكبر؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة