أخطر ما جرى من فساد أنه قضى على البشر، فالمصانع يمكن استعادتها أو بناء غيرها، والأرض يمكن استبدالها، لكن تعويض البشر هو الأمر الصعب، وما جرى خلال السنوات الثلاثين أنه تم تجريف القوة البشرية تعليميا واجتماعيا، والقضاء على العمالة المدربة والخبرات المتراكمة، وتم البدء فى اقتصاد حر دون منافسة.
ونحن نتأمل ما جرى فى مصر خلال سنوات من الخصخصة والفساد الاقتصادى والسياسى، نكتشف أنه جرت عملية تخريب متعمدة، تم فيها تدمير المؤسسات وتهميش القوة البشرية. وهو أمر أخطر من بيع وتفكيك أصول الشركات والمصانع.
الخصخصة طوال 19 عاما شارك فيها رؤساء وزراء ووزراء كان المعلن فيها هو الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر، مع إهمال أهم قواعد الاقتصاد الحر - المنافسة والشفافية - ومع عملية تخسير الشركات وتفكيكها وبيعها تمت الإطاحة بالعمال والخبرات العمالية الكبيرة التى كانت تمثل رأس المال الحقيقى لمصر.
وإذا كنا نبحث عن إجابة لسؤال: هل يمكن إعادة بناء الصناعات التى تحطمت على مدى سنوات؟ربما يكون من الممكن استعادة المصانع لو توافرت الإرادة، ويمكن إعادة بنائها لو كانت أصولها بيعت وتوزعت.
لكن هل يمكن استعادة الخبرات التى تم تشريدها وهاجر أصحابها خارجيا أو داخليا؟
كانت الشركات والمصانع تعتمد على التدريب المستمر والبعثات للخارج، وهو ما أدى لتراكم خبرات واسعة فى مصر فى مجالات الصناعات المعدنية والغزل والنسيج، لكن مع بداية التفكيك تردت أحوال العمال، واضطروا للسفر والهجرة للعمل بالخارج، وتوقفت عمليات نقل الخبرات بين الأجيال ومعها مراكز التدريب التى كانت تخرج العمالة الماهرة التى ميزت الصناعة.
ومثلا كانت صناعة الغزل والنسيج فى مصر نتاجا لتراكم عقود طويلة بدأت منذ أنشأ طلعت حرب قلاع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى، التى استمرت وتطورت، وحتى الثمانينات كانت المحلة مدينة وصناعة تمثل قلعة صناعية مهمة، لكن مع الخصخصة واختفاء المنافسة متزامنة مع حمى الاستيراد، لدرجة أصبحت معها المنتجات المستوردة تنافس المصرية فى الجودة والسعر، واحتلت المنتجات الصينية واجهات معارض المحلة وأرصفتها متزامنة مع تردى أحوال المدينة الاجتماعية والاقتصادية، لتصبح مدينة عجوزا يثقلها الفقر والعشوائيات والزحام، ونفس الأمر بالنسبة للصناعات المختلفة فى شبين وطنطا وحلوان.
مثلما توقف نظام مبارك عن بناء المدارس توقفت توسعات المصانع وانهار التعليم الفنى الذى كان أساس تخريج الخبرات الصناعية، واكتفى النظام سنوات بالشكوى من الزيادة السكانية بينما كانت المدن الجديدة بدلا من أن تتحول إلى توسعات تمتص الزيادة السكانية تحولت إلى تجارة وبيزنس، حققت أرباحا لعدد محدود. ولم تمثل إضافة بشرية. لقد سرق نظام مبارك البشر والخبرات قبل أن يسرق المصانع والشركات والأراضى.
إن أى مشروع للنهضة يبدأ وينتهى بالبشر، فالأراضى والمصانع يمكن تعويضها، لكن الخبرات والبشر هم العملة النادرة التى يفترض أن نستعيدها أولا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة