أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى 13/11/1974 وقف "ياسر عرفات" (الزعيم الخالد)، على المنصة لينهى خطابه التاريخى، فى المرة الأولى التى دخل فيها زعيم فلسطينى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ملبياً الدعوة التى وجهتها هيئة الأمم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تقرير إدراج قضية فلسطين على جدول أعمال الجمعية، ووجه حديثه إلى الدكتور "كورت فالدهايم" الأمين العام، قائلا: "سيدى الرئيس، لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدى، سيادة الرئيس، الحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين". ويجئ خطاب محمود عباس "رئيس السلطة الفلسطينية" هذه الأيام.. أيام الربيع العربى وحرق العلم الإسرائيلى فى أول دولة مجاورة، تقيم معاهدة سلام مع إسرائيل، وقد استخدم "أبو مازن" فى خطابه نفس تقنية "أبو عمار" فى خطابه، بل استخدم العبارة نفسها "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدى" مع أنه لم يذهب إليهم كما ذهب عرفات بـ "غصن الزيتون مع بندقية ثائر"، فقد ترك البندقية فى غزة لحماس، لتوهم العالم أنها قادرة بها على تحرير فلسطين، وجاءهم فقط بغصن زيتون المفاوضات، الذى انتهكه "نتانياهو" مرة بعد أخرى، مما دعا "حركة الأحرار الفلسطينية" إلى القول: "إن خطاب عباس قدم وهماً عاطفياً كبيراً لشعبنا، وتنازلاً جوهرياً للعدو عن 78% من الأرض الفلسطينية التاريخية، مقابل دولة وهمية ترفض دولة الكيان تقديمها له"، مؤكدة أن جماهير شعبنا الفلسطينى مع خيار المواجهة والتحدى للاحتلال، وأن الفرصة أصبحت سانحة لكى نعيد الوحدة على أساس المقاومة بكل أشكالها، وليست السلمية فقط"، وقالت "الأحرار" فى بيانٍ لها: "إن كلمة عباس اتسمت بالعاطفية، التى تضمنت الكثير من التنازلات والتناقضات فى الوقت نفسه". وبالتأكيد فإن مثل هذه الألغام والقنابل الموقوتة، التى خلفها "أبو مازن" خلف ظهره، فى الأرض المحتلة، والتى تحتفظ بأضعافها "حماس"، سوف تحاول تفجير الحلم الذى كان حلما "عرفاتيا"، منذ البدايات الأولى، حيث جسد "عرفات" هذا الحلم السرمدى فى خطابه التاريخى حينما قال: "لقد وقف المناضل اليهودى "أهود أديف" فى المحكمة العسكرية الإسرائيلية، قائلاً: أنا لست مخرباً، أنا من المؤمنين بإقامة الدول الديمقراطية على هذه الأرض، إنه الآن فى غياهب سجون الزمرة العسكرية الصهيونية مع زملاء له، ويمثل الآن أمام هذه المحاكم ذاتها أمير شجاع من أمراء الكنيسة المسيحية هو المطران كبوجى، إنه يرفع أصابعه بعلامة النصر، شعار ثوّارنا، ويقول: إننى أعمل من أجل السلام فى فلسطين، ليعيش الجميع على أرض السلام بسلام، وسيلقى هذا الأمير الراهب المصير ذاته، فى غياهب السجون، فلماذا لا أحلم، يا سيادة الرئيس، وآمل، والثورة هى صناعة تحقيق الأحلام والآمال، فلنعمل معاً على تحقيق الحلم فى أن أعود مع شعبى من منفاى، لأعيش مع هذا المناضل اليهودى ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحى وإخوانه، فى ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحى والمسلم فى كنف المساواة والعدل والإخاء، ألا يستحق هذا الهدف الإنسانى النبيل، أن أناضل من أجل تحقيقه مع كل الشرفاء فى العالم؟ ولعل أروع ما فى هذا الهدف العظيم، هو أنه من أجل فلسطين، أرض القداسة والسلام، أرض الاستشهاد والبطولة"، لقد حاول "محمود عباس" بكل البلاغة والعواطف السامية الجياشة، أن يقدم فى خطابه المؤثر فضحاً وتعرية وإدانة لا لبس فيها، لكل جرائم المستوطنين الصهاينة والاحتلال الصهيونى، وكل الإرهاب الموجه لكل الشعب الفلسطينى، كما صفع "أبو مازن" فى خطابه، كل تخاريف "نتانياهو" التوراتية حول فكرة الدولة اليهودية وتمسك بحق مليون ونصف المليون فلسطينى من عرب 48 بأرضهم، وأكد على حق الشعب الفلسطينى، كآخر شعب تحت الاحتلال فى دولة مستقلة، على أساس قرار التقسيم ودون أن يتنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ذهب "محمود عباس" هذه المرة، وقد تأكد العالم كله أن إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة لا يمكن أن يتم عبر المفاوضات مثلما يؤكد "نتانياهو"، وإنما عبر المقاومة المشروعة بمختلف الوسائل والطرق، واتخاذ مختلف السبل، التى اتخذتها كل شعوب العالم (بما فى ذلك الشعب الأمريكى نفسه)، وحتى لو كان رئيس السلطة الفلسطينية قد تحدث عن المقاومة السلمية، إلا أنه قطع الحبل السرى، أو هكذا ظهر للعالم، بينه وبين أوهام "أوسلو" ودهاليز "الرباعية"، بل إنه أعلن وإن كان بشكل غير مباشر، عن سقوط "السلطة الفلسطينية" بتجسيده فكرة "الدولة الديمقراطية"، على أرض فلسطين فى مواجهة فكرة "الدولة اليهودية" العنصرية، التى يسعى نتانياهو لفرضها على العالم، فهل يقدر "محمود عباس" على إتمام وحدة فلسطينية حقيقية على أرضية المقاومة، حتى ولو كانت مقاومة سلمية؟ وفى جميع الأحوال، وكما احتفظ التاريخ لـ "ياسر عرفات" بفضل تفجيره "حلم الدولة الديمقراطية" على أرض فلسطين، فإنه سوف يحتفظ لـ "محمود عباس" بروعة الهدف لأنه سوف يبقى هدفاً من أجل فلسطين.