الأساس فى أى مرحلة انتقالية أن ينشغل القائمون عليها باستكشاف الأخطاء الماضية ويعالجونها، وأن يعيدوا تشكيل هياكل الدولة ومؤسساتها ليعود الحق إلى أصحابه، وأن يسنوا من التشريعات والقرارات التى تكفل حصول كل مواطن على حقوقه كاملة، وأن يرصدوا مخالفات النظام القديم ليعاقبوا مرتكبيها سواء كانت مادية كارتكاب الجرائم بأنواعها، أو معنوية مثل تشريع القوانين الفاسدة التى تخدم مصالحه وتتيح له سرقة الوطن أو إضعاف بنية المجتمع وأخلاقياته، ثم تأتى مرحلة التطهير من هذه الرواسب المتراكمة عبر خطة تنموية وإصلاحية كبيرة، ومن ثم يأتى التمهيد للبناء القادم «على نضيف».
أعتقد أن الترتيب السابق هو الطبيعى والعادى والمفترض فى أى مرحلة انتقالية، لكن للأسف هذا «الطبيعى» لم يحدث فى مصر، وهو ما أوقع القائمين على الحكم فى إشكالية كبيرة، فلا أحد يعرف إلى أية شرعية يستند المجلس العسكرى فى حكمه للبلاد، لذا فالتخبط السياسى وارتكاب الأفعال غير المنطقية هو سيد الموقف، فمن ناحية يقسم أعضاء المجلس وبغليظ الأيمان قائلين إن النظام السابق سقط، وإن ثورة الشباب شرعية، بل أدى أحدهم التحية العسكرية للشهداء، ومن ناحية أخرى يعتمد المجلس على القوانين الزائفة السابقة، ويوهمنا بأن تفعيله لبعضها شرعى.
تطهير القوانين ومراجعة النظام الأساسى للدولة إذن من الأمور الملحة والعاجلة التى لا ينفع من دونها تطهير، لكن الواحد يزداد حسرة وحيرة كلما رأى ممارسات المجلس العسكرى التى وضحت بشكل لا لبس فيه بعد تفعيله قانون الطوارئ مستندا فى ذلك إلى قانون مبارك ومجلس شعبه المنحل بقرار محكمة.
الغريب أن المجلس يصر على عدم المساس بهذه القوانين، بل يضيف إليها شرعية جديدة باستخدامه لها، فمن وجهة نظرى فإن تداعيات استخدام المجلس لهذا القانون أخطر بكثير مما يتخيله المجلس نفسه، فمجرد الاعتراف العملى بقوانين مبارك الفاسدة يضرب شرعية المجلس الثورية فى مقتل، وذلك لأن الدستور السابق لا ينص على تولى المجلس العسكرى لشؤون البلاد فى حال اعتذار الرئيس عن الحكم، ومن ثم لا شرعية دستورية للمجلس لكى يعتبر نفسه استكمالا للنظام السابق، ولا صحة «قانونا» للتفويض الذى منحه الرئيس للمجلس، وذلك كما قلنا لأن الدستور لا يمنح مبارك هذه الصلاحية، بالإضافة إلى أن مبارك أجبر على ترك الحكم بالقوة، أى لا مناص للمجلس من الاعتراف بالشرعية الثورية والعمل بها، أما أن يطلع علينا المجلس الآن ويعطى قوانين مبارك التى ثار الشعب ضدها شرعية زائفة فمعنى ذلك بمنتهى البساطة أن المجلس نفسه «غير شرعى» لا فى انقلابه على مبارك ولا فى حكمه لمصر، وأن الأولى بالمحاكمة بهذه القوانين هو المجلس نفسه بتهمة الانقلاب على قيادته والاستيلاء على الحكم.
هذا ما يقوله المنطق، لكنى لم أفقد الأمل بعد فى أن يصحح المجلس مساره، وأن يتبنى الشرعية الثورية مسلكا وحيدا لحكمه مصر، وكما أكدت أكثر من مرة، ليس من مصلحة الثورة ولا من مصلحة مصر، أن تتصارع القوى الثورية وتطول فترة سوء التفاهم والتشكيك، شرط أن نخلص النية لله والوطن وأن يتخلى المجلس عن فكرة الاعتماد على قوانين مبارك الفاسدة، وأن يعتبر الحرية هى الهدف الأسمى الذى أجزم بأنه سيتحقق شاء من شاء وأبى من أبى.