فى وسط حملات استعراض البطولات الزائفة، ممن أكلوا على موائد الطغاة، وغرفوا من دماء أبناء الشعوب البائسة ببجاحة لا يحسدون عليها، يختفى الحق وتتوه الحقيقة، ولأن الأنقياء الشرفاء لا يجيدون الإعلان عن مواقفهم الشريفة، لأنهم لم يتخذوها فى الأساس للاستعراض بها، ولأن هذه المواقف ليست غريبة عنهم ليحفظوها ويكرروها ويرددوها كما يفعل الآخرون، فقد تغيب المواقف الحقيقية، ويعلو الباطل، ويخفت الحق، ولا يصح أن يوضع من تعفف عن مصافحة الطاغية، والجلوس بين يديه، والنيل من هباته، وعطاياه، مع من تدنى من الطغاة وتدنى، وصاروا عينه التى ينظر بها، ويده التى يبطش بها، ولسانه الذى يتحدث به.
ولأن القذاقى كان يمثل صورة الطاغية المثالى، فقد اتضحت فيه جميع هذه المفارقات، وبجانبه ظهر من هم الأقزام المتصاغرون، ومن هم الأطهار الشرفاء، وسآخذ هنا مثالين واضحين تمام الوضوح، المثال الأول هو الناقد الذى كان كبيرا «جابر عصفور»، والكاتب والصحفى الذى سيظل كبيرا محمود الوردانى، فالأول كان يطنطن بالحرية والديمقراطية والشفافية والتمرد على الطغاة من ناحية، ومن ناحية أخرى يجلس بين يدى الحكام المستبدين ويمدحهم، ويتغزل فيهم، ليوحى بأن هذه النوعية المتوافرة بالدول العربية، ليست هى المقصودة بالنقد، وكان القذافى أحد هؤلاء بالطبع وتحصل منه «فى العلن» على أكثر من مليون جنيه، عند قبوله جائزة مشبوهة رفضها الكاتب الأسبانى «خوان جويتيسولو»، لأن مانحها ظالم مستبد، أما الثانى فله حكاية طريفة مع هذا المعتوه من الواجب الآن أن نذكرها.
الوردانى الذى كان أحد أهم مؤسسى جريدة أخبار الأدب، وأحد أكبر صحفييها، تلقى دعوة منذ سنوات لحضور معرض طرابلس للكتاب، وبدون أن يعلم، رتب له أحد أعوان القذافى ميعادا ليعقد معه مقابلة صحفية، تنشر فى صورة حوار بأخبار الأدب، ورحب القذافى بهذا الحوار لعشقه الدائم للظهور فى صورة الأديب العالم المنظر، وحينما فوجئ الوردانى بأتباع الرئيس الهارب، يبلغونه بميعاد الحوار، لم يعرف ماذا يفعل، لكنه كان قد حدد اختياراته، وعزم على ألا يذهب إلى هذه المقابلة، برغم أن توابع هذا الرفض لم تكن مأمونة، فعزم الوردانى على الهروب من ليبيا قبل ميعاد الحوار بساعات، معرضا حياته للخطر، على أن يصافح الطاغية، وعاد بعدها ليترك مكانه فى «أخبار الأدب» وسط تكهنات من بعض المثقفين، بأن هذا النقل كان عقابا على رفضه لمحاورة القذافى، بينما البعض الآخر يقول إن سبب ترك الوردانى أخبار الأدب، هو أنه لم يستطع أن يتأقلم مع أسلوب إدارة الغيطانى لها.
عشرات وعشرات من المنافقين والمدلسين الذين تمتلئ بهم الصحف المصرية، والوسط الثقافى، كانوا يتمنون إجراء مثل هذا الحوار، بعض من هؤلاء كان يقف على أبواب الطغاة شهورا أو قُل أعواما.. لينالوا نظرة رضا يتبعها شيك، والبعض الآخر مدحه وأثنى على كتاباته بحروف مدفوعة الأجر، لكن يشاء الله أن يظهر بين الحين والآخر أحد الشرفاء، ليفضح وضاعة الآخرين، أستاذ محمود.. شكرا.