كلنا كنا نتمنى طرد السفير الإسرائيلى من مصر بعد الاعتداء الأخير على جنودنا وحدودنا، كلنا كنا نتمنى موقفا مصريا حاسما ثوريا فى مواجهة الدولة العبرية التى مازالت رغم السنوات الطويلة من السلام البارد هى العدو الوحيد الصريح فى المنطقة، لكن أمنياتنا لم تتحقق ودخلنا فى سجالات فارغة مع الجانب الإسرائيلى، شيمون بريز الرئيس الشرفى يعتذر، باراك يتأسف، باراك يعلن أنه لم ولن يعتذر ثم تمضى بنا الأيام إلى سجالات جديدة حول كامب ديفد، حتى ضاعت اللحظة الحاسمة لردع الدولة العبرية.
وعندما جاء القرار التركى بطرد السفير الإسرائيلى فى أنقرة تحولت أمنياتنا إلى نوع من الإحباط والخجل ووجدنا أنفسنا تلقائيا نضع تركيا ومصر فى مقارنة ثم نتبع انفعالاتنا وننحاز للموقف التركى الذى يغذى المشاعر بالعزة الوطنية والكرامة، حتى كتب أحدهم على فيس بوك محرفا عبارة الزعيم مصطفى كامل الشهيرة "لو لم أكن تركيا لوددت أن أكون تركيا".
بالطبع يبدو الموقف التركى صلبا حاسما منيرا فى ظلمة اليأس من تواطؤ القوى الكبرى مع إسرائيل، بينما يبدو الموقف المصرى متراخيا متخبطا ليس بعيدا عن السياسة الخارجية فى عهد مبارك، إلا أن المدقق فى الأمر، يجد فرقا هائلا فى المقدمات التى دفعت كلا من أنقرة والقاهرة، إلى اتخاذ موقفيهما المتباينين رغم الإعجاب والانفعال بالموقف التركى، وتخيلوا معى الرئيس عبد الله جول يحكم مصر بظروفها الحالية والمجلس العسكرى يدير تركيا بأوضاعها المستقرة والمتقدمة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا والمستوى الإقليمى، هل كان جول يستطيع أن يتخذ قرار طرد السفير الإسرائيلى من القاهرة وهل كان المجلس العسكرى "التركى" باستطاعته تجاهل الفرصة المواتية لإضعاف تل أبيب فى إطار الصراع المحتدم بينهما للهيمنة على المنطقة؟!
علينا أن نستعرض معا مجموعة المقدمات والمعطيات التى أدت بكل من القاهرة وأنقرة لاتخاذ موقفين متباينين من أزمة تبدو متشابهة، كانت فيها إسرائيل قاسما مشتركا اعتدى وقتل عددا من الجنود الأتراك والمصريين فى البحر المتوسط وعلى الحدود المصرية.
أولا: تركيا بلد مستقر سياسيا ويحظى رئيسه وحكومته بدعم الأغلبية الكاسحة من الشعب التركى، بينما تمضى مصر فى مرحلتها الانتقالية بعد الثورة ترجو الاستقرار عبر انتخابات تشريعية ورئاسية خلال الأشهر المقبلة، أى أنها بالتعبير الأمريكى فى مرحلة "البطة العرجاء" التى تدخلها الإدارة خلال الشهور الأخيرة من ولاية الرئيس، تركيا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة يترتب عليها تبعات جسيمة ومنها الحرب، لكن الإدارة المصرية الحالية تريد المضى بالسفينة إلى بر النجاة بأقل قدر من الخسائر حتى تسليم السلطة.
ثانيا: تركيا بلد استطاع تحقيق طفرة اقتصادية خلال العقد الأخير، وفى طريقة نحو مزيد من النمو، عملة قوية نسبيا ومستوى دخل مرتفع ونسبة بطالة متدنية وقطاع الصناعة والزراعة يشهد نموا كبيرا، وفى المقابل تعرض الاقتصاد المصرى لهزة بعد الثورة نتيجة سيطرة رجال النظام السابق على مقدرات التصنيع والاستثمار ونتيجة السياسات العشوائية المستمرة على مدى ثلاثة عقود، أفقرت الزراعة والصناعة معا ودفعت قطاعات واسعة من العمل والموظفين والعاطلين إلى المطالبة بحقوقهم والضغط من أجل تلبيتها، وهو ما يضع الإدارة المصرية فى مأزق الاختيار بين الموقف الحاسم من إسرائيل ودفع ضريبته الاقتصادية الهائلة مما يفاقم سوء الأوضاع المعيشية والاحتجاجات الفئوية، أو الضغط من أجل تحقيق مكسب سياسى يتمثل فى تعديل اتفاقية كامب ديفد دون التضحية بالمعونات الأوروبية والأمريكية أو يرتب على البلاد أعباء اقتصادية إضافية.
ثالثا: صراع تركيا مع إسرائيل يختلف عن الصراع المصرى معها، فلا توجد حدود تربط أنقرة بـ"تل أبيب"، مثلما هو الحال مع مصر، ولا توجد بينهما اتفاقية سلام ملزمة مثل "كامب ديفد" ولا يهدد الانقسام الفلسطينى أراضيها مثلما يحدث بين غزة وسيناء التى مازالت مشروعا محتملا فى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى لإقامة الدولة الفلسطينية بالمخالفة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى والقرارات الدولية.
نحن إذن أمام مقدمات متباينة لا يمكن أن تؤدى إلى موقف متشابه، لكن الإدراة المصرية ليست مضطرة أبدا إلى حماية إسرائيل من الغضب الشعبى، ففى أحيان كثيرة يكون هو المفتاح السحرى لأزمات يعجز الموقف الرسمى عن اتخاذ موقف حاسم منها دون خسائر، وخذوا مثلا الموقف الأخير الخاص ببناء جدار عازل حول سفارة تل أبيب فى القاهرة، لماذا نبدو أكثر حرصا فى حماية الإسرائيليين من الغضب الشعبى وهم لم يهتزوا إلا عندما واجههم هذا الغضب النبيل بمكانتهم الحقيقية فى خانة "العدو"، ولماذا فى هذا التوقيت بالذات كأننا ندعم تركيا فى سعيها لأن تكون زعيمة العالم العربى والإسلامى؟
أسئلة تظل مطروحة بلا إجابة، فى انتظار تسليم السلطة لرئيس منتخب نستطيع أن نلزمه بالموقف الشعبى!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة