للموروث الشعبية مذاق خاص، فالشعب يضع فيها خلاصة تجربته وخبرته بالحياة فى إطار مبسط يتوغل فى وجدانه ويؤمن به ويمارسه بتلقائية وسذاجة وطيبة، وفى الغالب تمثل هذه الحكايات تاريخا من الوعى الأسطورى للكون وتحمل العديد من سماته، وتبرز ذلك التصور الخيالى المبتكر للعلاقات بين الناس والعالم من ناحية، والناس من ناحية أخرى، وللمدقق أن يرى فى هذا الموروث شخصية الشعب، وله أيضا أن يتوقع سلوكه بناء على ما يراه، وإياك أن تحسب أن هذا الموروث تلاشى تحت موجات التمدن والعولمة، فهو ينام دائما تحت الجلد، لا يظهر للعابرين، لكنه ينتفض مرة واحدة فى الأوقات المناسبة، وهذا ما يميز الشعوب صاحبة الحضارات الراسخة، والأخرى التى تفتقد إلى التاريخ والموروثات.
أقف الآن أمام سلوك كان يمارسه الأطفال حتى وقت قريب إذا وجدوا «خنفساء» فى الطريق، فبمجرد رؤيتهم لها بشكلها المرعب كانوا ينهالون عليها بصقا، وقلما كان يتجرأ أحد ويقتلها، على العكس من الصرصار الذى يقتل مباشرة فور رؤيته، ولعل السبب فى هذا الفارق فى التعامل بين الحشرتين أن وجود الأولى أصيل فى البيئة المصرية، وكان المصريون القدماء «تقريبا» يحرمون قتل جميع المخلوقات، أما الثانية فوجودها حديث نسبيا، لذلك ليس لها غطاء من الأساطير ليحميها.
الحكاية الشعبية التى تفسر سلوك البصق على الخنفساء هو أنها «خدامة العقربة» التى ترسلها لتستكشف الأجواء واستطلاع أحوال الطقس، فإن ظهرت الخنفساء ووجدت الجو صحوا رجعت لسيدتها وأبلغتها بما رأت، وبدورها تخرج سيدتها من مكمنها إلى العلن لتفترس وتلدغ، أما إذا قالت لها إن الجو ممطر، فتؤثر السلامة فى مخبئها العميق، ولهذا كان البصق على الخنفساء هو الحل، لتعود إلى سيدتها وتخبرها أن الجو ممطر، فتنام سيدتها فى بياتها الشتوى، وكفى الله الجميع شر القتال.
أغلب الظن أن أصل هذا السلوك الأساطيرى يعود إلى العصر الفرعونى، وبالتالى ليس غريبا أن ينسج الناس حوله الأساطير، لكن الغريب أن يستمر هذا السلوك حتى الآن الذى كان يمارسه الأطفال فى القرى والأحياء الشعبية، أو شكله المطور الذى يمارسه الكبار فى جميع الأوساط والشرائح المجتمعية، فكم من «عقربة» مختبئة فى بيتها تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض، وكم من خنفساء لا تستحق إلا البصق فور رؤيتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة