لا يكتفى الطغاة بعصاهم الغليظة، وقسوتهم المفرطة وتبجحهم غير العادى، وتزويرهم لإرادة الشعب، فى التمكين لأنفسهم، لكنهم يتخذون لأنفسهم غطاء ناعماً يتكئون عليه، ويصدرونه للمعارضين ليقوم بدور المبرر للطغيان، والمدافع عن صولجان الأنظمة الديكتاتورية، وغالباً يختار الديكتاتور واحداً ممن يتمتعون بمصداقية ما عند معارضيه ليقوم بهذا الدور، وقد وقع اختيار مبارك وحاشيته على جابر عصفور فقام به على الوجه الأكمل بالنسبة لهم.
كان عصفور منتمياً إلى اليسار المصرى بكل تاريخه النضالى، وكان من أكبر نقاد الوطن العربى، كما أنه كان يتمتع بعلاقات كبيرة سواء على المستوى العربى أو المحلى، لذلك فقد كان هذا الاختيار صائباً، وللحقيقة كان عصفور مخلصاً لمن اختاروه، محدداً فى أهدافه، وواضحاً فى تطلعاته، لا يتورع أبداً عن دفع الثمن من أجل الظفر بما يشتهى، حتى إنه فى أيام مبارك الأخيرة انقلب على فاروق حسنى وزير الثقافة السابق، ومضى يقدح فى الوزارة ومساوئها التى كان يعدد إنجازاتها فيما قبل، ووقتها كتبت مقالاً بعنوان «جابر عصفور «الراقص على السلم»»، وقلت إنه يتزلف إلى مبارك حينا وإلى معارضيه حينا، وإنه يلمع نفسه من أجل القفز على كرسى الوزارة، ولم تخيب الأيام ظنى، وأتى به مبارك وزيراً للثقافة فى أول حكومة لأحمد شفيق بعد قيام الثورة, ركب عصفور على الوزارة وهو يعرف أن الطريق إليها كان مفروشاً بدماء الشهداء، مضى يبرر فعلته القبيحة بالقول إنه كان يريد الحفاظ على المتاحف والآثار حينها، والقول إنه كان يظن أنها حكومة إنقاذ وطنى حينا آخر، برغم أن قرار توليته للوزارة كان مصاحباً لقرار فصل الآثار عن الثقافة، وأنه كان يعلم تمام العلم أن حكومة شفيق حكومة حزب وطنى بامتياز، وأنها ليست أكثر من «نيولوك» لحكومة نظيف، ولما أيقن عصفور من أن حكومة شفيق ومبارك نفسه إلى زوال، حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه فاستقال، ولأنه كان يحافظ على عادة الرقص على السلالم، لم يعلن حينها أنه استقال اعتراضاً، وقال إن سبب تركه للوزارة هو «ظروفه الصحية» ولما رحل مبارك استأسد وصال وجال ضد سيده القديم.
يعرف التاريخ أمثال جابر عصفور جيداً، يحفظ أسماءهم بكل خزى، يكللهم بالسواد مبشراً إياهم بسوء العاقبة فى الدنيا والآخرة، لكن ما لا يعرفه التاريخ أن جابر عصفور الآن يشغل عدة مناصب لا تمنح إلا للمكرمين، فقد اختارته الدكتورة كاميليا صبح أمين عام المجلس الأعلى للثقافة ليكون مقرراً للجنة الدراسات الأدبية بالمجلس، كما اختير سابقاً رئيسا لمجلس إدارة متحف طه حسين، ومستشاراً فنياً للمركز القومى للترجمة، ومستشاراً لمكتبة إسكندرية، فهل عدمت مصر من أبنائها المخلصين لكى يتولى عصفور هذه المناصب؟ أم أننا نكرمه من أجل تاريخه العريض فى التزلف؟