كعادتنا فى هذه الأيام التى أخرجت أسوأ ما بالشعب المصرى وأفضله، انهالت التعليقات الساخرة على بيان انسحاب الدكتور محمد البرادعى من سباق الانتخابات الرئاسية، كما انهالت علينا موجة من التنظير المتفذلكة التى تتخذ من شخصية «أبو العريف» إماما وقدوة، وانقسم الناس كعادتنا منذ استفتاء 19 مارس إلى فريقين فريق «نعم» والجنة والاستقرار ومعلش، وفريق «لا» والحق والثورة مستمرة، وقرأ كل واحد قرار البرادعى بحسب انتمائه أو بحسب ما كان يتمناه.
رأينا من قال إنه عرف أن شعبيته «فى النازل» فآثر السلامة كما لو أن «طبخة» الشعبية عصية المنال صعبة التحقيق، ورأينا من فسر انسحابه بادعاء أن أمريكا عارضت ترشحه وأبلغته عن طريق «كارتر» فى زيارته الأخيرة بعدم تدعيمها له، كما لو أن دعم أمريكا هو الشرف وما دونه الخزى والعار، أو كما لو كان الرجل لم يعارض أمريكا مرارا وتكرارا سواء فى وكالة الطاقة الذرية أو فى منهجه الاشتراكى الديمقراطى المنحاز إلى الفقراء، وعلى الجانب الآخر رأى فريق أن انسحاب البرادعى قرار ثورى ضرب به الرجل كرسيا فى الكلوب داعيا إلى ثورة ثانية، وهذا أيضا من وجهة نظرى تطرف مبالغ فيه، لأن البرادعى ببساطة اعترف بشرعية الانتخابات وبرغم تحفظه عليها وعلى ملابساتها، لكنه لم يدع أبدا إلى إلغائها أو عدم الاعتراف بها.
ليس لنا بد إذن من أن نتقبل كلمات الرجل كما هى، فنحن غير مضطرين للتأول مادامت الكلمات واضحة، فعلى مدى ما يقرب من ثلاث سنوات رأينا كيف تمتع هذا الرجل بشرف الكلمة ووضوح المقصد، على عكس أغلبية السياسيين التى تقول كلاما وتقصد عكسه، وتفعل نقيض الاثنين، ومن وجهة نظرى أيضا فإن انسحاب البرادعى هو «الطبيعى» وما دونه هو «الشذوذ» فالرجل كان واضحا منذ البداية وصرح بأنه لن يدخل انتخابات مختلة المعايير فاسدة المناخ، لذلك فإنى اعتبرت قرار انسحاب البرادعى هو الرد الأقوى على عشوائية مجلسنا العسكرى المهاب، الذى انفرد بالمرمى فأحرز هدفا فى نفسه، ورسالة للتاريخ بأن كل شىء ليس على ما يرام، ورسالة إدانة لأمريكا التى تدعم المجلس العسكرى وتلتقط سفيرتها الصور التذكارية أمام صندوق الانتخابات لإيهام العالم بأن مصر تعيش تجربة ديمقراطية، ورسالة للعالم تفيد بأننا مازلنا فى أول الطريق، وأن الظلم لم يرحل وإنما «فقط» تبدلت أشكاله، فشكرا للبرادعى الذى تعفف عن التسابق اللاهث الأجوف نحو السلطة، وشكرا لما قدمه من نضال فى السابق والآتى، وليهنأ كل طباخ بطبخته.