عادةً ما نخشى تحويلَ الرواياتِ الكبرى أفلامًا. فبالرغم من اتساع عوالم ميديا السينما، وتوسُّل المخرج عواملَ مساعدةً من موسيقى، وضوء وظلال، ومؤثرات بصرية وسمعية، ولعب فنىّ لبناء دراما مكثفة يصنعها المخرجُ والسيناريست والممثلون، ورغم أن السينما هى تحويل «الكلمة» إلى «صورة»، ما ينقل الطاقة السردية من عين القارئ، حال قراءته الرواية فى كتاب، إلى عينيه وأذنيه وحواسه مجتمعة، حال مشاهدته فيلمًا سينمائيا، ضاجًّا بالحوار والموسيقى والضوء والحركة والصورة، وللصورة، كما نعلم، مثلُ حظِّ عشرة آلاف كلمةٍ، من حيث سرعة وصولها للمُتلقى، رغم كل ما سبق، إلا أننا، لا سيما الشغوفين بالقراءة، نشفق على رواية أحببناها أن «تُختصَرَ» عوالمُها فى ساعتين على شاشة عرض. قليلة هى الأفلامُ التى لم تقتلِ النصَّ الأصلىّ! ونذكر أن نجيب محفوظ كان، حين يُسأل عن أفلام رواياته، يقول: لستُ مسؤولا إلا عن رواياتى، أما الأفلام التى بُنيت عليها فلها آلياتٌ تِقَنية مختلفة، لا أعرف عنها شيئًا.
أمّا أن يجتمع عظيمان فى عمل واحد: عظيمٌ فى الكتابة وعظيمٌ فى الإخراج، فذلك من شأنه أن يهبَ السينما المصرية العريقة قطعةً من الدُّر الفريد. حدث هذا مرتين كان قاسمُهما المشترك هو عظيم الكتابة: «إبراهيم أصلان»، الذى غافلنا ورحل بالأمس، فى هدوء يليق بالنبلاء. المرة الأولى حين استلهم عظيم الإخراج: «داود عبدالسيد» رواية أصلان المدهشة: «مالك الحزين» فى فيلم «الكيت كات»، الذى يتربع على قائمة أهم الأفلام المصرية خلال قرن. والثانية حينما أخرج عظيم الإخراج: «مجدى أحمد على»، رواية أصلان الفاتنة: «عصافيرُ النيل». بدأ المخرج فيلمه بمشهد فانتازىّ كأنما يرسمُ صورة أصلان فى شبابه. عبد الرحيم، الشابُّ النازحُ من القرية إلى المدينة ليعمل فى هيئة البريد، يذهب بصنارته إلى شاطئ «بحر» النيل ليصطاد سمكةً. غير أن صنارته، الراميةَ بطولها فى عرض السماء، لم تصطد إلا عصفورًا! فى ذلك المشهد الخاطف، تتكاثف خيوطُ الحبكة الدرامية جميعها، وتتلخص شخصيةُ «إبراهيم أصلان»، الروائى الذى وهب عمره الأدبىّ لاصطياد العصافير، التى ترمز للحظات الإبداع وومضات الوهج السردىّ الفاتن، التى تقطر من قلمه. يرسم المخرجُ لوحاتٍ نابضةً بالحياة فى حارة «فضل الله عثمان» بحىّ إمبابة الشعبى. النسوةُ فى جلابيبهن الزاهية يخُضن فى بِركة ضحلة من مياه الغسيل، تغمرُ سيقانهن رغاوى الصابون، فيما يضحكن ويتغامزن. الأبوابُ المصدّعة القديمة تكسوها طبقات متشققة من الطلاءات البدائية. لمبةُ الكيروسين يعلو زجاجَها الهبابُ الأسود، يشعلها الزوجُ «سى البهىّ»، حين تنقطع الكهرباء، ثم يهرعُ بها إلى زوجته «نرجس» لينقذها من هلعها المَرضىّ من العتمة، وتستعد هى لتلك المحنة بعلبة كبريت لا تبرحُ جيبها. لكنها تضيعها دائمًا فيشتعل رعبها. إلى أن تتجرأ يومًا، حين تنشب الفوبيا أسنانَها فى قلبها الوَجِل، وتطلب منه طلبًا فانتازيا عجيبًا: أن يضىء قبرها بلمبة صغيرة بسلك، ولو أسبوعًا واحدًا إلى أن تعتاد الظلام الأبدىّ. يستنكر فى البداية مطلبها الخيالى، فلما تُلحّ، يبدأ فى مناقشة التفاصيل: من أين يأتى بالكهرباء؟ سوف تنفجر اللمبة! هل يجوز سؤال المَلكيْن فى ضوء الكهرباء؟ لكنها تحاججه وتجيب تساؤلاته، فيومئ فى الأخير مستسلمًا. ثم يقضى بقية عمره فى كتابة شكاوى إدارية لرؤسائه، أبناء أقدم بيروقراطية فى التاريخ، أولئك الذين أجبروه على التقاعد المبكر عن العمل فى مصلحة البريد. تتكاثر الشكاوى وتأخذ فى التصاعد على الدَّرج الوظيفى والسُّلطوىّ حتى تصل إلى رئيس الجمهورية، السادات. يساوم «سى البهى» السادات كاتبًا له أنه كان يتعرف على خطابات الضباط الأحرار، ولم يبلغ عنهم، ومن ثم فهو شريكٌ فى الثورة. آلاف الأوراق وشفّافات الكربون ملأها قلمُ الموظف التعس. ويتصاعد وعيُنا بمرور الزمن عبر عدسة نظارته التى يزيد سُمْكها عامًا بعد عام، حتى يكاد البصرُ أن يتلاشى، قبل أن يسقط ميتًا وقد ارتدى «زونط» الخدمة القديم، وحبّات سِبحة الكهرمان تتناثر من بين أصابعه. فيما الزوجة الصابرةُ تبيع ذهبها قطعةً إثر قطعة، ثم نحاس مطبخها وأوانيها، وفى الأخير، الكريات النحاسية التى تمثّل عرائس أعمدة سريرها العالى. تبيع ثلاثًا وتُبقى العروسة الرابعة تحفظها كما يحفظ المرءُ قطعةً من قلبه. تراوغها فتضيع هنا وهناك، تبحث عنها فلا تجدها، ثم تفاجئها وتظهر لها بغتةً، فتُلمّعها بحنوٍّ وتدسّها فى مكان خفى كيلا تضيع! فتضيع! وتبدأ من جديد لعبةُ المراوغةُ والتخفّى، بين المرأة وكُرَةِ النحاس العتيقة.
أما المشهد العمدة فى هذا الفيلم الجميل، فمشهد الختام. مشهد يجسّد ضياع مصر الراهنة من يد أبنائها. تصوّره الجدّةُ المسنة حين تركض فى الطرقات بجلبابها الممزّق وشعرها الأبيض المنكوش وهى تسأل المارةَ فى وجع: «محدّش عارف طريق البلد ياخدنى معاه؟» ونجيبُها بأسًى، نحن المصريين: محدش عارف، لأن البلد ضاعت واختفى الطريقُ إليها، أضاعها غزوان: غزوٌ خارجى خليجىّ أصولىّ قضى على جمالها القديم، وغزو داخلىّ أفرزته حكوماتٌ متعاقبة أخفقت فى أن تحبَّها وتحميَها. إبراهيم أصلان، نم ملءَ جفونك عن شواردها، أيها العظيم الذى رحل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة