جاء المشهد العبثى فى الجلسة الافتتاحية الإجرائية لبرلمان الثورة، ليكشف عن تحولات فى عمق الفكر المجتمعى، يوحى بأن مصر يجرى اختراعها وليس استردادها.. البعض كان لا يصدق نفسه بأنه جاء بانتخابات برلمانية ديمقراطية حرة، فتصور بأن أولى مراحل الاختراع هو تغيير القسم البرلمانى، سواء بالإضافة أو الحذف والتعديل، والبعض الآخر رأى أن "العلم" الذى ضحى تحت لوائه آلاف الشهداء بأرواحهم فى معركة الشرف والكرامة فى أكتوبر 73 وانتهاء بثورة 25 يناير، ينبغى التخلى عنه واسترداد علم الأسرة العلوية.. البعض لا يدرك أنه جاء خادماً لمصر وشعبها وليس وصياً عليها، وأن عصر الوصاية قد ولى إلى غير رجعة، وأن الحساب سيكون عسيراً إن ارتكن إلى مبررات النفاق الثورى ليستمد شرعيته وبقائه.
ثورة الشعب لا يملك أن يحتكرها نائب برلمانى أو تيار سياسى، ومن يظن أن ديكتاتورية الأغلبية تحميه فلينظر إلى المقعد الذى يجلس عليه، ويفتش عن صاحبه الذى سبقه فى قوائم طره، فقد كان ينتمى أيضاً إلى ديكتاتورية الأغلبية، ومن يتصور أنه جاء ليلعب دور نجم الفضائيات ومقاهى التوك شو، فعليه أن يبحث عن شعب آخر ينصت إليه.. البرلمان الجديد مكلف باسترداد مصر وهويتها ودستورها وثرواتها وأبنائها الذين ألقى بهم إلى اليم غرقاً أو إلى أيدى جراح مجرم تاجر بأعضائهم، أو إلى عصمة كفيل أزهق أرواحهم وانتهك أعراضهم، لن نتحمل مزايداتكم الدينية والعلمانية، ولن تقبل أجندات دول الجوار ودول الإقليم ودول الأشقاء والقوى الكبرى كل هؤلاء وقفوا يتأملون مشاهد ما قبل الخامس والعشرين دون حراك أو إشارة اعتراض على ما يجرى بحق الشعب المصرى، بل استفاد كثيراً منهم من بيع الأصول والأعضاء والأعراض.
المبالغات الخطابية والفتن المنبرية لا وقت لها ولا منصت لها وعبارات التشفى قد استهلكنا منها أطنان على مدى الأشهر الماضية، ولافتات التأييد لأولى الأمر قد أوشكت على النفاذ ولا رصيد لها.. وإن لم نسابق الزمن لإقرار الدستور والانتهاء من الطبخة الرئاسية قد نسقط جميعاً بالوطن إلى غير رجعة.
فى تقديرى أن الأشد قسوة لم يأتِ بعد.. وتلك ليست نبوءة أخرى لكنها مؤشرات وقحة بدأت تلقى بتلميحات غادرة فى وجه مشعل الفكر وهى حرية الرأى والإعلام.. تطلق بين حين وآخر بالونات الاختبار وعبارات التهديد بتكميم الأفواه وكسر الأقلام وإطفاء الأنوار التى من أجلها انضمت صحفنا وأقلامنا دفاعاً عنها وعن ثورة الشعب.. وأتصور أن من سوف يفكر للحظة واحدة أن يحتكر ثمار الثورة سوف تسحقه الأقلام.. وسيذهب مع من سبقوه إلى "طره لاند"، لأن الحرية لا تسجن مهما بلغ الجلاد من القسوة.. وفى ظنى أنها محاولة يائسة ومكيدة للوقيعة بين الثورة والإعلام، ليتفرغ كل منهما للآخر، ويهرب الجناة بينما تستغرقنا معارك التصفية وفتنة الانقسام.
ليس من الحكمة أن نسقط جسارة الصحف والأقلام التى سطرت فى ليلة الرابع والعشرين من يناير الماضى نبوءتها الأول لثورة الخامس والعشرين، معلنة أن "الجنرال أول من يهرب".. وهى مقامرة تحسب فى تقديرى لـ"اليوم السابع" باختياره الانحياز لأحرف وكلمات جاءت تحمل بين السطور رهان على مستقبل لم تبدوا أى من معالمه بعد، وعواقبه ستكون كارثية على من تنبأ به ومن تآمر معه بالنشر إن فشل.. ومشهد سياسى قد تكشف سيولته عن زبانية الجحيم إن لم يغرق فيها ويذهب إلى غير رجعة.. لكنها فى البدء شرف وأمانة الكلمة التى اعتنقها كثيرون ممن استحوذهم الحلم وخرجوا سعياً خلفه.
على مدى أيام وشهور العام الأول من الثورة تصدرت "اليوم السابع" صفوف الثورة الأولى متحملة بكل فخر أفكارنا الثورية، تطارد معنا الحلم فى وطن أفضل، تتلقى بصدر رحب هجمات الأتباع والفلول بحنكة قائد عسكرى، فمعركة الرأى لمن لا يدرك لا تقل ضراوة عن مواجهات الثوار فى ساحات التحرير لأنها هى أيضاً معركة شرف.. لكننا لم نجرؤ على الإدعاء مثل البعض أن مصر من اختراعنا، بل نحن الذين ولدنا من جديد عندما اكتشفنا قدرتنا على التطهر من نخبتنا السياسية الفاسدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة