لما كان قد سبق لى أن كتبت قبل ذلك أنه «من البديهى أن الحزب الوطنى ما زال هو الذى يتحكم فى كل مفاصل الدولة حتى الآن، لأنه ما يزال يدير مصر كلها من مواقعه الإدارية القيادية فى جهاز بيروقراطى عفن وجهاز أمنى أكثر عفونة، فما كان لأحد الموظفين فى أية إدارة من الإدارات أن يصل إلى درجة مدير عام أو رئيس قطاع أو وكيل وزارة إلا إذا لبس بدلة الحزب الساقط المنحل التى وقع عليها كمال الشاذلى أو يوسف والى أو صفوت الشريف، ثم يعتمد التوقيع جمال مبارك ننوس عين الذليل المخلوع ووريث عرشه الذى أسقطته وكسحته إلى سجن طرة «حتى الآن» دماء الشهداء وعزيمة الثوار وما زال هو الشريك القوى فى التشكيلة الحاكمة التى تشكل ملامح «المستبد الجديد»، ففى المستقبل المنظور سوف يكون هذا الحاكم «المستبد الجديد» هو تشكيلة من العسكر والإخوان والسلفيين والليبرالية اليمينية والحزب الوطنى، وهذا الحاكم الاستبدادى الجديد سوف يعيد تجديد نفسه، وإن كان امتدادا للحاكم المستبد الذى أسقطت ثورة 25 يناير المجيدة رأسه، وبقى منه جسده، لكن سوف يبقى فساد هذا الحاكم «المستبد الجديد» هو الوقود الذرى المخصب فى وجدان الشعب المصرى الذى يدفع بالثورة للانطلاق المستمر باتجاه تحقيق أهدافها النهائية.
ولأننى أقر وأعترف أننى قد سبق لى أن قلت هذا الكلام، لذلك فقد اقتحم على جلستى مع أحد الأصدقاء وهو يلوح بالصحيفة التى كتبت فيها هذا الكلام فى غضب شديد وهو يصرخ قائلا: «شوف يا صاحبى.. إحنا نعرف بعض من ثلاثين سنة وأنت تعرف أنى وكيل وزارة وتعرف أنى لو لم أكن عضوا بالحزب الوطنى ما كنت وصلت لدرجة وكيل الوزارة وكان من الممكن ألا أستطيع تربية أولادى مهندس الاتصالات والمحاسب والطبيبة، الذين تحبهم أنت جدا وتقدر حسن تربيتى لهم، عضويتى للحزب الوطنى هى التى مكنتنى من تربيتهم هذه التربية ومع ذلك فقد اعترضوا على ذهابى مع الأغلبية الصامتة للتظاهر تحت كوبرى العباسية ضد كل من هاجموا المجلس العسكرى، نعم، أولادى اعترضوا على ذهابى، لأنه ليس عندهم أولاد يربونهم فى المدارس والجامعات الخاصة مثلما كان أبوهم، هؤلاء الشباب لا يعرفون مصلحتهم، كما أن أمثالك ممن يكتبون مثل هذا الكلام، وتسمية الحاكم باسم المستبد الجديد هم الذين يعملون ضد مصلحة الشباب ومصلحة مستقبلهم، أنا لم أرتشِ يوما من الأيام، ولم أتربح من وظيفتى، ولم أختلس قرشا واحدا وكل ما فعلته هو أننى كنت فى حزب المستبد القديم، وسوف أكون فى حزب المستبد الجديد، وسوف أطلب من أبنائى الثلاثة أن يكونوا فى حزب المستبد الجديد، لأن الحياة فى هذا البلد لا يمكن إلا أن تكون فى حزب الحاكم، وإلا فالموت جوعا هو النتيجة الحتمية، أنا سوف أذهب إلى العباسية لأقف تحت الكوبرى مع الواقفين، وسوف أحمل لافتات التأييد للمجلس العسكرى بالرغم من اعتراض أبنائى، شوف يا عم الحاج، اللى يتجوز أمى أقول له يا عمى، ولو أنت أو غيرك قالوا عنى عميل للمجلس العسكرى فسوف أقول لكم، نعم وبكل فخر.. أنا عميل للمجلس العسكرى.
أنا أعرف الرجل من سنين بعيدة ولم أر دمعة واحدة فى عينيه طوال هذه السنين غير هذه المرة، طوى الرجل الصحيفة التى كان يلوح بها فى وجهى ووضعها تحت إبطه وبكف يده راح يمسح دموعا سقطت على خديه، ولكنه قبل أن ينصرف لوح بإصبعه السبابة فى وجهى وبصوته المتهدج الذى أراده أن يكون حاسما قال: «من الآخر كده أنا عميل للمجلس العسكرى يا عم الحاج، واللى عندكم اعملوه إذا كنت أنت أو أولادى».
وطبعا لم أستطع عمل شىء إلا تنفيذ طلبه من أن أكتب ما قاله، لكنى لم أستطع أن أمنع نفسى من البكاء.