د يتساءل البعض.. لماذا أترك الدنيا كلها هذه الأيام وأكتب مرارا عن إنقاذ مدنية أون الأثرية التى تتعرض الآن لأقصى درجات الانتهاك والتبديد؟، وأنا هنا لا ألوم المتسائلين على أسئلتهم، بل على العكس تماما أعذرهم فى استغرابهم، وذلك لأن مناهجنا التعليمية القاصرة، وحكامنا الجهال من قديم الأزل، تفننوا فى أن يبعدونا عن هويتنا الحضارية الممتدة فى عمق التاريخ الإنسانى، للدرجة التى جعلتنا نجهل أعظم إنجازاتنا الحضارية فى تاريخ البشرية التى جسدتها مدينة أون، أول عواصم مصر الموحدة، صاحبة المرجعية التاريخية والعلمية الأولى فى التاريخ، والتى زارها نبى الله موسى، وأقام فيها نبى الله يوسف، وتعلم فيها أكبر وأعظم فلاسفة اليونان، وخرّجت العديد من العلماء والوزراء والأمراء، الذين غيروا وجه العالم بإنجازاتهم الهندسية والمعمارية، أمثال الوزير أمنحتب، وإنى لأعجب من تلك الكيفية المريضة التى ندوس بها تاريخنا، ونهينه ونرديه قهرا، فقد كتبت عن تلك المدينة مرارا، لكن للأسف لم ينتبه أحد حتى وزارة الآثار التى من المفترض أن تكون حامية التاريخ، القائمة على حفظه، وتقديمه للعالم.
ويقول عالم المصريات الكبير «أودلف إرمان» عن تلك المدينة «إن مدينة «أون» فاقت كل المدن أهمية، واستمرت شهرة المدينة منذ عصر ما قبل الأسرات حتى العصر الرومانى، حتى مع انتقال مركز الحكم منها إلى أى مدينة أخرى، مثل «منف» أو «طيبة» وفى بعض اللوحات الفرعونية جاء ذكر مدينة طيبة باسم «أون» الجنوبية، وذلك نسبة إلى «أون» الشمالية التى بعين شمس، وقد جاءت شهرة مدينة «أون» وعمق تأثيرها فى الحياة الدينية فى مصر، نظرا لأنها صاحبة أول نظرية فى خلق الكون، وأصبح «تاسوعها» المقدس أساس كل اعتقاد دينى جديد، كما أن كهنتها وعلماءها، هم أول من قسم السنة إلى اثنى عشر شهرا، وإلى ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، وهو التقسيم المعمول به حتى الآن، ويذكر الدكتور عبدالعزيز صالح، أن مدينة «أون» ظلت محتفظة بسيادتها الدينية على مر العصور، وظل الملوك يقدمون للإله «رع» القرابين، ويضعونه فى مقدمة الآلهة العظام، ويقيمون له المعابد والمسلات تقربا له، ومما يميز مدينة «أون»، أن معابدها كان ملحقا بها دور للعلم، تشبه جامعات العصر الحديث، يقوم فيها الكهنة بالتعليم والشرح للطلاب فى مختلف المجالات التى تفوقت فيها المدينة كالطب والفلك والفلسفة واللاهوت، حيث كان طلاب الطبقات العليا، يفدون إليها وأطلق عليها اسم «بر عنخ» أى بيت الحياة، ويلحق بها أيضا دور للكتب أطلق عليها اسم «برمزات» أى دار الكتب، وقد أشرف بنفسه – رحمه الله – على الحفائر التى أقامتها كلية الآثار فى منطقة عرب الحصن، وكان يأمل فى أن يجد أيا من بيت الحياة أو دار الكتب، وأسفرت الحفائر التى أشرف عليها منذ أواخر الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات عن معبد للملك رمسيس الرابع، وقصر الأمير حوت سر، ومعناه قصر الرجل العظيم، لكنه رغم اكتشافاته المهمة كان يأمل فى أن يجد هذه المكتبة فى مساحة الـ54 فدانا التى يأكلها الإهمال الآن، وتتعرض للسرقة، ولا حياة لمن تنادى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة