من الأفلام السينمائية المهمة التى عرضت أمس الأول بالمسابقة الرسمية لمهرجان أبوظبى السينمائى الدولى، فيلم التونسى نورى بوزيد «مانمتوش». ونورى بوزيد هو واحد من أهم المخرجين العرب، وأيقونة من أيقونات السينما التونسية، ومن أفلامه ريح السد، صفايح ذهب، عرائس الطين، آخر فيلم، ومن المخرجين الذين حصدوا الكثير من الجوائز محليا وعالميا.
أما فيلمه «مانمتوش» فقد صور بعد الثورة التونسية بشهرين، وتناول أحداث القصبة الثانية، نورى كعادته يطرح وجهة نظره ويقول ما يريد دون مواربة أو خوف، فهو طوال الخط ضد الإسلاميين وضد التطرف، يرفض حجاب الرأس، ويرفض المصادرة على الحريات الشخصية. يبدو الفيلم صادما ولكنه فى الوقت نفسه فيلم كاشف للكثير من التحولات والأمور التى تشهدها تونس بعد الثورة، وتحديدا ممارسات الإسلاميين المتطرفين الذين باتوا خطرا داهما. نورى الذى تعرض للاعتداء بوصفه واحدا من أهم المخرجين التوانسة الليبراليين، وفى فيلمه الجديد يحول نورى أفكاره وما يؤمن به إلى قصة سينمائية مليئة بالتفاصيل الإنسانية.
على خلفية الدراما السياسية التى يشهدها الشارع التونسى وسطوة المتطرفين، وذلك من خلال فتاتين، زينب وعائشة، واللتان تكافحان للحصول على الحرية نفسها المتاحة للرجال فى بلدهما. زينب ترفض وضع الحجاب، ووالدتها تضغط عليها، تلبية لرغبة الخطيب القادم من فرنسا والذى يعمل فى السمسرة، لدرجة أن الأم تضع الخشخاش لابنتها فى الشاى لتجبرها على عدم النزول إلى الشارع والعمل، وتختار لها ما تضعه على رأسها.
وعائشة - تجسدها سهير بن عمارة - التى تكافح لتربية شقيقتيها بعد وفاة الأم وزواج الوالد، ترفض خلع الحجاب بناء على رغبة صاحب «الكافيه» الذى تعمل به، لأن جزءا نفسيا فى داخلها يجعلها تعتقد أن الحجاب يحميها، بعد أن استغلها خطيبها الأول.. الفيلم نسجه بوزيد بدقة متناهية، فأسرة زينب تضم الشقيق المتطرف الذى هرب من السجن عقب أحداث الثورة، والذى يرى أن عائلته أبعد ما تكون عن الإسلام، وتحديدا زينب، ووالده الذى يرى أن الدين هو علاقة بين الفرد وربه، ولا يملك أحد الحكم على نوايا وأعمال الآخرين.
الأب يبدو مكسورا أمام هذا الطوفان القادم، والأم كل ما يعنيها هو زواج الفتاة، والخطيب ذلك الرجل القادم من فرنسا والذى يعانى من الازدواجية فى أفكاره وممارساته مثله مثل الكثير من الرجال العرب، يمارس حريته ويصادر على حرية خطيبته حتى لو كان يحبها.
فيلم «مانمتوش» يبدأ بلقطات لجثث ملقاة بجوار بعضها، تنتقل إلى المشرحة، نرى جثة مخرج الفيلم الذى يجسد داخل الأحداث دور عازف أكورديون أعمى يجوب الشوارع يغنى وسط الشباب، تلك هى حياته التى اختارها.
ومع تصاعد أحداث الفيلم وتطورها نجد لقطات لتغسيل جثة لا تضح ملامحها سوى مع نهاية الفيلم، وهى جثة المخرج، وكأن نورى بهذه اللقطات المؤثرة والمشحونة عاطفيا يقول للمتطرفين إنه سيواصل تحديه وينتصر للإبداع وللحياة وليس للموات الذين يرغبون فى فرضه على المجتمع التونسى. فيلم نورى كعادة أفلامه وآخرها فيلمه «making of» يملك القدرة على إدهاش المشاهد وصدمته فى آن واحد حتى لو كان البعض لا يتفق مع جميع الأفكار التى يطرحها فى أعماله، وأنه يفرض أيديولوجيته الخاصة طوال الوقت بشكل حاد، لكن هذا الاختلاف الفكرى مع نورى لا يقلل من حجم إبداعه من خلال صياغة سيناريو محكم، وإدارة ممثلين بدرجة عالية من الكفاءة.
كما لا يخلو السيناريو من حس كوميدى ساخر، أقرب إلى الكوميديا السوداء من خلال تلك الشخصيات المقهورة والمرسومة أيضا بحرفية عالية، ويعد فيلم «مانمتوش» واحدا من أعمق وأفضل الأفلام التى ناقشت ما تشهده الدول العربية من تحولات سياسية بعد الثورات، ووصول الإسلاميين إلى سدة الحكم.