أنا لا أحب الأماكن التى يشعر فيها البشر بالضعف، لا أحب تلك الأماكن التى يسير بين طرقاتها السائرون، وفوق ملامحهم الكثير من التوهان والوجع، أسير بداخلها منكس الرأس، خوفاً من ملاقاة عين منكسرة، أو وجه أتعبه ذل السؤال ولا أملك له إجابة، أو قلب مجهد من كثرة مناجاة السماء بأن تمنحه ما عجز البشر أن يمنحوه.
أجواء المستشفيات تفعل أكثر من ذلك بالبشر، تسرق من عيونهم وهجا اعتادت أن تستمتع به، وتـستبدل به عيونا زائغة تقتلك بإجهادها، وتدفعك أنت للشك فى كل قطعة بجسدك، ومدى قدرتها على العمل والدوران.
وفى المستشفى وما بين ورود وشيكولاتة داخلة، ودموع وآهات خارجة، تتقلب روحك كما تتقلب أنت بين أمواج الماء الساخن والبارد المتساقطة من دش خرج عن السيطرة بسبب سباك فقد ضميره السيطرة عليه.
لا شىء سوى أجواء الحزن يمكنك أن تحصل عليها داخل المستشفيات ياسيدى، حتى لو كانت زيارتك عابرة لتهنئة مريض منّ الله عليه بالشفاء، ربما لأن أغلب المستشفيات العامة وحتى الخاصة لا تملك من الإمكانيات ولا يملك العاملون بها من التأهيل ما يكفى لأن يمنحوا به برودة أجواء المستشفيات قليلا من الفرح أو الأمل.
علمونا ونحن صغار أن الأطباء وأهل التمريض ملائكة بيضاء تدور بالرحمة بين الأجساد التعبة، وهذا ما لا يمكن أن تراه الآن فى مستشفيات مصر التى تحول أطباؤها إلى آلات ميكانيكية، يشبه أداؤهم أداء المحاسبين، ورواد البنوك، وموظفى الأرشيف أصحاب الملامح والمعلومات الجامدة، يخبرك الواحد فيهم بأن «المحضن» سيشرف بحضن ودفء وليدك بدلا منك، وكأنه يخبرك بأنه ذاهب إلى مشوار إلى كشك السجائر، ويدخل عليك الآخر بملامح جامدة ويتلو عليك قائمة طويلة من المشاكل، ومن خلفه مساعد، كل مهمته غلق الأبواب والأفواه، كأن مبارك -لا أعاد الله عهده- فى زيارة لافتتاح مصنع زبادى.
كل هؤلاء الأطباء وكل مشاكلهم النفسية والشخصية تبدو قابلة للحل والزوال لو وفرت لهم الدولة ظروف عمل إنسانية لا تطاردها المرتبات الضعيفة أو المستشفيات غير المؤمنة، أو الإمكانيات غير الموجودة.. فليس إنسانياً بالمرة أن أطلب من طبيب الابتسام وهو يدرك تماماً أنه عاجز عن مساعدة مريض لأن الجهاز الفلانى أصيب بعطل، أو العناية المركزة تعانى من بحر تلوث، أو وحدة الأشعة لا تلبى احتياجات المرضى السريعة، أو الدولة فشلت فى تأمين المستشفى من البلطجية.
فى الأيام الماضية قابلت الكثير من هؤلاء، وأسعدنى حظى بآخرين أكثر قربا من صورة الرحمة التى علمونا إياها فى الصغر، غير أن «ناهد» هى الوحيدة التى تستحق قليلاً من التوقف، ليس فقط لأنها ممرضة تصدر الضحكة والفرحة، على عكس الممرضات اللاتى اعتدنا منهن تصدير الأيدى للحصول على المعلوم قبل أداء وظيفتهن، ولكن لأنها خليط ما بين جدعنة بنت البلد، وحنان الست المصرية، والطموح الذى لا يتوقف ويدفعها دوما لأن تجارى صغار الأطباء بمعلوماتها، وسعيها نحو التطور.
«ناهد» جزء من صورة المرأة المصرية التى تقدم للناس حنانا وفرحة وطمأنينة، ربما تكون هى فى أمسّ الحاجة إليها، وهى واحدة من أولئك الدائرات فى سواقى العمل من أجل لقمة العيش دون أن تمد يدها بحثا عن المعلوم مقابل ما تقدمه من فاصل مصرى طيب يكسر جمود الأوضاع قذارة فى مستشفيات مصر وبرود الأطباء الحيارى بسبب قلة الإمكانيات وتطور الأمراض التى يسعون لعلاجها بشكل أكثر تطوراً من خبراتهم وأدواتهم، أو يصيبون الناس بها لأن الدولة لا تمدهم بالدعم العلمى والمادى الكافى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة