حزب الحرية والعدالة ليس فى حاجة إلى مبادرة لـ"لم الشمل"، ولكن إلى بناء جسور الثقة مع مختلف ألوان الطيف السياسى، وأن يعود إلى شعار "مشاركة لا مغالبة " قولا وفعلا، أما مثل هذه المبادرات التليفزيونية فلن تؤدى إلا إلى "تفتيت الشمل" وزيادة الفرقة والصراع والاستعراض، ومنذ ثورة يناير استهلكت مصر مؤتمرات ومبادرات وحوارات بحجم الهرم الأكبر، كانت محصلتها النهائية العودة دائمًا إلى نقطة الصفر.
يتحقق "لم الشمل" دون مبادرات إذا نجح حزب الحرية والعدالة فى امتحان الدستور، وقدم للأمة المصرية وثيقة عصرية محترمة يلتف حولها الجميع، وتحقق الطمأنينة لكل أفراد المجتمع، وتحمى الحريات العامة وتصون حقوق الإنسان، وترسم الطريق إلى المستقبل مفروشاً بالآمال والطموح.. دستور لا يكرس السلطات المطلقة فى يد الرئيس فيجعله فرعونًا، ولا ينتقم من المحكمة الدستورية ويقضى على سلطتها، ولا يُغضب الأقباط شركاء الوطن والمصير، ويوحد الجميع تحت مظلته دون تفرقة بسبب عرق أو جنس أو دين، ويحافظ على مدنية الدولة والهوية المصرية التى انصهرت داخلها كل الثقافات والحضارات.
"لم الشمل" حول وثيقة الدستور أهم من "لم الشمل" فى قصر المؤتمرات، واستطلاع رأى المواطنين البسطاء أكثر جدوى من الخطب الحماسية والعروض السياسية، والوقت ليس فى صالح مصر إذا تأخرت أكثر من ذلك فى إقرار الدستور، وستظل سلطات الدولة غائبة عن إطارها القانونى ومكدسة فى يد الرئيس، وتخضع لاجتهادات مستشاريه حسب أهوائهم الشخصية وميولهم السياسية دون ضابط أو رابط، وبدون دستور لن تهدأ البلاد، ولن يتحقق الاستقرار ولن تأتى الاستثمارات، ولن تجرى انتخابات مجلس الشعب، ولن يستطيع أحد محاسبة الحكومة ومراقبة قراراتها أو مطالبتها بتقديم كشف حساب.
ويتحقق "لم الشمل" دون مبادرة إذا استطاع حزب الحرية والعدالة أن يعيد بناء جسور الثقة مع مختلف القوى السياسية بالأفعال وليس الأقوال، فكثير من الوعود انقلبت إلى عكسها، والتصريحات، التى تصدر من مسئول يُكذبها آخر، ودخل مستشارى الرئيس ومساعديه فى قضايا تسىء للرئاسة والرئيس فأصبحوا عبئا عليه وعلى البلد، وأصبح سكوتهم أفضل من كلامهم واختفائهم أكثر نفعاً من ظهورهم.. ولم الشمل هنا لا يتطلب مبادرات أو مؤتمرات، ولكن بالحفاظ على هيبة الدولة التى تضعف كثيرا من فرط التلميع الإعلامى.
ويتحقق "لم الشمل" إذا ابتعدت قيادات الإخوان وحزب الحرية والعدالة عن "محرقة الإعلام"، وهوس الظهور فى الفضائيات، فالكاميرات مثل الساحرة الشريرة، التى تكره من يصاحبها بالليل والنهار، والدليل على ذلك المعارك الكلامية والقضائية مع الإعلاميين بعد أن كانت العلاقة "سمن على عسل"، ولا تجد معدة الفضائيات الشرهة الآن سوى نجوم الإخوان، لتملأ فراغها وتسد جوعها، فأصيبوا بالتوتر والانفعال والاستعلاء، وانتهى كثير من المداخلات بغلق المكالمة فى وجه الضيوف، بعد تبادل الاتهامات وأحيانا القذف والسب.
ويتحقق "لم الشمل" بإحساس المواطن العادى أن الدولة تسير فى طريق "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، ليس بالأرقام والبيانات الوزارية، ولكن على أرض الواقع، فعندما يحصل الناس على احتياجاتهم من الخبز الآدمى بيسر وسهولة سيصدقون كلام وزير التموين، وعندما يتوقف التربص بوسائل الإعلام تصبح الحرية حقيقة لا خيالاً، وعندما تضيق الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المُدقع يتنسم الوطن هواء العدالة الاجتماعية، وليس مهما أن يتحقق ذلك بين يوم وليلة، ولكن أن يكون لحزب الحرية والعدالة برنامج مُعلن وخطة زمنية، لإحياء الآمال والتطلعات وشحن الناس بالتفاؤل وأن غداً سيكون أفضل من اليوم.
ويتحقق "لم الشمل" بالعودة إلى شعار "مشاركة لا مغالبة"، فمن حق القوى التى شاركت فى الثورة أن تشعر بأنها تشارك فى الحكم، ولم يتم إقصاؤها واستبعادها واختفائها من المشهد السياسى، وأن وضعها ليس أفضل مما سبق، وهذا ليس معناه توزيع المناصب والمغانم والحصول على قطعة من كعكة الحكم، ولكن بتطبيق مبدأ العدالة السياسية وعدم الاستحواذ على كل مفصلات الدولة ومناصبها واحتكارها لصالح الإخوان فقط.
أين أبو الفتوح وحمدين صباحى وخالد على وسليم العوا ووائل غنيم والبرادعى وحرارة وإسراء عبد الفتاح ونوارة نجم وجورج إسحاق، وعلاء الأسوانى وممدوح حمزة، وغيرهم من الطابور الطويل، الذين تصدروا الصفوف وقادوا الجماهير، ولماذا أصبح شركاء الأمس هم خصوم اليوم، جمعتهم الثورة وفرقتهم السلطة، ولماذا أُغلقت قنوات الاتصال وسبل التفاهم والحوار، وأصبحاً على طرفى نقيض، فمن ليس معى فهو ضدى وغيرها من الاتهامات، التى لا تختلف كثيراً عما كان سائداً مع النظام القديم.
"لم الشمل" يحتاج للنوايا الطيبة والإرادة الصادقة، والوضع الراهن لا يحتمل مزيدًا من الصراعات والمعارك، ولن ينقذ هذا الوطن إلا العودة إلى العمل والإنتاج واستنهاض طاقات الأمة وعناصر قوتها وأسباب نهضتها، وكفى مضيعة للوقت فى المبادرات والمناظرات والتنابز بالاتهامات، فقد آن الأوان لتصمت مدافع الكلام وتنطلق مسيرة العمل.