كلما أتى هذا اليوم المبارك «يوم عرفة».. تذكرت على الفور تلك المعاناة التى عاناها نبى الله إبراهيم وهو يضع اللبنات الأولى لبيت الله المطهر، إذ تقوم شعيرة الحج بالأساس على محاكاة ما فعله أنبياء الله، مرورا بمواقفهم وسيرا على سنتهم، فبينما يحاكى المسلمون ما فعله أنبياء الله من شعائر ومجهودات يسهمون كل عام فى ترسيخ بناء الكعبة، وما لها من مكانة جليلة روحيا وعمليا، فما بين الطواف والسعى والصلاة والدعاء والوقوف والتمتع، بقرب العباد من رب العباد، بأن يخلصوا لفروضه، ويتحملوا مشقة السفر والحج، ويسعوا إلى رضائه، ولأن المراد بشعيرة الحج فى الأساس هو تذكر البناة العظماء، فيجدر بنا اليوم أن نتذكر العالم المصرى الجليل والمهندس الأبرع فى عصرنا الحديث «محمد كمال إسماعيل» الذى توفى عن عمر يناهز المائة عام فى سنة 1998 صاحب أكبر توسعة فى تاريخ الحرمين الشريفين، التى لولاها ما استوعب الحرمان هذه الملايين التى تراها اليوم.
لا مفر من المرارة أيضا ونحن تذكر هذا العالم الجليل اليوم، وقد غاب اسمه وتوارت أعماله الرائعة عن مناهجنا التعليمية، وتجاهلته وسائل إعلامنا، وكأننا نعادى أنفسنا، ونتفنن فى إنكار أبناء مصر وعلمائها وعباقرتها الذين أبوا أن يرحلوا إلا بعد أن يضعوا بصمتهم الفنية الراقية فى حياتنا، فتزيد بهم بهاء وجلالا وجمالا.
بعلمه تحدى العالم المهندس الراحل محمد كمال إسماعيل الزمان والمكان، فمن المعروف أن بلاد الحجاز تتميز بحرارة جوها القاسية، ولذا كانت حرارة الجو من أكثر التحديات صلابة فى وجه «كمال» حينما أراد توسعة الحرمين، لكنه بعد أن درس وخبر وبحث.. استطاع أن يجعل الحرمين فعلا كرياض الجنة، ينبع منهما الهواء باردا، ويشعر الداخل إليهما بأنه يشم ريح الجنة، وليس فى ذلك معجزة سوى معجزة العلم التى صاغها العبقرى الراحل، بحساب اتجاه الرياح وسرعتها وتكييف التصميم المعمارى بناء عليهما أولا، ثم باستخدامه نوعا من أنواع الرخام النادر الذى يمتص البرودة من الهواء، ثم يعيد طرحها مرة أخرى.
ولا تقتصر أعمال هذا المهندس العبقرى على توسعة الحرمين الشريفين وإنما تستطيع أن ترى أثر فنه وعلمه، وأنت تتجول فى شوارع القاهرة والإسكندرية، فهو بانى دار القضاء العالى، الذى يجبرك على الشعور برهبة القضاء وسمو مكانته، وهو بانى مجمع التحرير الذى أكسب الميدان هذا الشكل الدائرى الشهير، وهو بالإضافة إلى ذلك بانى مسجد صلاح الدين بالمنيل، الذى يعد تحفة أقيم على نسقها عدد من المساجد فى دول الخليج، وهو كذلك بانى مسجد أبو العباس المرسى فى الإسكندرية، الذى كنت أعتقد – برغم دراستى للآثار الإسلامية – أنه من عداد الآثار، وأزعم أن هذه الدقة الفنية المعمارية العالية، لا تتأتى إلا لمن يبلغ فى حب العمارة ما يبلغه الصوفى فى حب الحقيقة.
إذا كنت من حجاج بيت الله، أو ممن يتابعون شعائر الحج عبر الأقمار الصناعية، فمن حقك أن تفخر اليوم بمصريتك، وأنت ترى الحرمين الشريفين بهذا الرونق المبهر، وهذا التصميم الخلاب، ولا تنس وأنت تستمع لقول الحجيج «لبيك اللهم لبيك»، أن تقرأ الفاتحة لعالمنا الذى أعطاه الله من العلم والموهبة الكثير، فوضع زكاة موهبته فى أقدس بقاع العالم، حافرا فيها اسمه واسم بلده الكبير.