وقف أول أمس على جبل عرفة أكثر من ثلاثة ملايين مسلم فى مكان واحد، وهم يرتدون جميعا ملبسا واحدا ويقفون جميعا فى هيئة واحدة يلبون ويكبرون ويقولون «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك»، ومعلوم أن الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، فهو أحد أبنيته، وقد فرضه الله على المسلمين عام التاسع من الهجرة، حيث حج النبى صلى الله عليه وسلم، ويعكس الحج معنى التواصل والولاء بين شرائع الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام جدنا وأبونا وجد نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذى قال «رب إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون»، وقد فرض الله على المسلمين الحج لقوله تعالى «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، وفى القرآن سورة كاملة اسمها سورة الحج ذكر الله تعالى فيها قوله «وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير».
إن تجمع المسلمين يوم عرفة على جبل عرفة الذى يعنى التعلم من ناحية أن جبريل كان يعلم إبراهيم عليه السلام فيقول له «أعرفت... أعرفت»، ومن ناحية التعارف فقد التقى أبونا آدم عليه السلام مع أمنا حواء على جبل عرفة، وفى هذا التجمع الضخم يقف المسلمون جميعا فى تعبير حى عن التجرد كلهم يلبسون أكفانهم البيضاء، وقد تركوا خلفهم كل ما يملكون واستقبلوا وجه الله الكريم ليقولوا يارب نحن قدمنا إليك، وقد تركنا كل ما نملك خلفنا لتغفر لنا وترحمنا وتتقبل أعمالنا، إن الحج هنا ممارسة عملية على الأرض وليس مجرد فعل نظرى يتحدث الناس عنه وهم يقبعون خلف مكاتبهم وفى الحجرات المكيفة.
وفى الحج ممارسة للجهاد حيث يخرج الحاج وقد ترك بيته شعثا أغبر يعلن حربه فى مواجهة الشيطان وهو يرجمه، ويرجمه كل المسلمين جميعا، فهو إعلان البراء من الشيطان الرجيم سبب الشرور والآثام فى ذلك العالم كله، حيث يقف المستكبرون والمتغطرسون والظالمون خلف أهداف الشيطان، بينما يقف المسلمون بالضرورة فى مواجهته هو وأولياؤه وحلفاؤه، فالمسلم بالضرورة يجاهد فى مواجهة الظالمين وفى مواجهة الشيطان وأوليائه.
عالم المسلمين الذين يجتمعون فى هذا الحج الأكبر يحتاج منهم إلى أن يتمثلوا معانى الحج الحقيقية وهى إفراد الله بالوحدانية والعبودية، وتأكيد معنى المساواة بينهم جميعا فى ملبسهم وفعلهم وهيئتهم، وتأكيد معنى التعارف بينهم.. «ففى خطبة النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، وفى هذا اليوم قال عليه السلام «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى»، وفى شأن المرأة قال عليه السلام فى خطبه الوداع يوم الحج الأكبر «اتقوا الله فى النساء، واستوصوا بهن خيرا».
نريد للدم المسلم أن يقف نزيفه، ونريد لعالم المسلمين أن يتحرر فعلا من الأثرة وأن يتحرر من السفه، وأن يتحرر حكامه من سطوة وموالاة أعداء الله ويكون ولاؤهم لشعوبهم، ونريد لعالم المسلمين أن ينشط المنافع بين دوله وأن يؤسس لسوق إسلامية اقتصادية يكون التبادل فيها أكبر من تبادلهم مع دول الغرب، إن الله يريد أن يقيم الحجة علينا كل عام من خلال مشهد الحج، فيا أيها المسلمون تحرروا من كل ما يقيم الفوارق بينكم وتحرروا من كل ما يفرق بينكم وأقيموا الوحدة لله.. كل عام وأنتم بخير وكل عام وعالم المسلمين يرنو لقيم الحج لتمثلها فى عالم الواقع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة