صارت مصر بكل المعانى دولة الجنون السياسى والمجتمعى بصورة يصعب معها أن تحتفظ بعقلك ولو للحظات بعض الوقت، فمن منا، سؤال بجد وبحق وحقيقى، يستطيع أن يضبط نفسه على موجة واحدة مستقرة تجاه ما يحدث من الحاكم والمحكوم، كن صريحا مع نفسك وأجب هل تستطيع أن تضبط صواميل عقلك دائما، مع الحاكم وجماعته وحكومته ضد الشعب، أو هل تستطيع أن تضبط صواميل عقلك دائما ضد الحاكم وجماعته وحكومته مؤيدا الشعب؟
أظن أن إجابة غالبيتنا ستكون نعم، لأنك أحيانا متهم من أصدقائك أو المحيطين بك بأنك من أشرس أعداء الجماعة وقد يصل الاتهام بأنك فلول وفى مواقف أخرى قد تبدو عدوا للشعب حتى يخرج أحدهم عليك باتهام أنك واحد من الجماعة، جماعة مرسى، إضافة لأنك أيضا فلول، وغالبا تحاول جاهدا أن تقسم بأغلى الكلمات بالله أنك فقط تتدبر الأمر وتقول الرأى حسب الموقف ولكن الاستقطاب لعنه الله جعلنا جميعا أو أغلبنا فى حالة اتهام دائم لبعضنا البعض.
والناس على دين حكامهم ولذا فحكومتنا الرشيدة التى تتمتع بالسياسة البليدة أصابتنا جميعا بما نحن فيه الآن مما سبق أن أشرت إليه.
وسأسوق أمثلة قليلة لعل القارئ الكريم يرى نفسه فيها، الحكومة الرشيدة أعلنت أنها ستغلق المحال التجارية فى العاشرة مساء توفيرا للطاقة وهو قرار للحق رشيد، فكل دول العالم تحدد مواعيد ثابتة للمحال حتى الدول العربية الشقيقة، مما أولا يوفر الطاقة ويسمح بنظافة المدن وترتيب أوضاعها وضبط حياتها، وهو قرار لا يناقشه أحد لأنه صار جزءا من حياة الناس، إذن القرار بالفعل رشيد، وما أحوج حياتنا المهدرة فى الشوارع إليه «ملحوظة: أنا هنا مع الحكومة تماما، وبالتالى قد يتهمنى البعض بأنى فجأة صرت من مؤيدى مرسى وجماعته ضد الشعب الغلبان!» ولكن كان يجب على ذات الحكومة الرشيدة أن تدرس كل تداعيات هذا القرار وتفند كل جوانبه قبل الإعلان عنه، ولكنها لم تفعل، فهى مثلا اكتفت بالحديث عن الطاقة المهدرة وهى تترك كثيرا من أعمدة الإنارة مضاءة نهارا جهارا، وهى أيضا لم تضع فى اعتبارها وسائل تنفيذ هذا القرار واحتياجها لآلاف من الضباط والعساكر لمتابعة التاجر الذى لن ينفذ القرار والإجراءات التى يجب اتخاذها حيال هذا التعدى على القرار، فكيف بالله تقرر حكومة رشيدة قرارا، وليس لديها أدوات لتنفيذه فهل استطاعت أن تضبط الشوارع من هجوم الباعة الجائلين وتنظمهم لتقرر تنظيم باعة وأصحاب المحال؟ عشرات من الأسئلة التى يمكن أن أطرحها وأغلبها استنكارية، «ملحوظة: أنا هنا ضد الحكومة تماما رغم أنى لست مع الشعب الغلبان، إذا قد أكون فلولا أو ربما كنت مع الثورة ثم انقلبت عليها، أو قد أكون ليبرالية كافرة تريد أن تهد كل عمل لمرسى وجماعته بأى وسيلة!»، الحكومة تراجعت بعد أن أقسمت بأغلظ الأيمان بأنها لن تتراجع، «ملحوظة: أنا سعيدة لأن الحكومة غُلبت بعد أن أثبتت عجزها لأنها حكومة غير رشيدة، ولكنى تعيسة لأنى كنت أتمنى لو نجحت الحكومة لأنى أعيش فى هذا البلد، إذن أنا مجنونة وغير واضحة الاتجاه والمعالم هو أنت مع الحكومة ولا ضدها؟!»
مثال آخر للجنون من الحكومة الرشيدة، حادث قطار يموت فيه عدد من المواطنين الذين يتسطحون القطارات، أى يركبون على سطح القطار لكى لا يدفعوا ثمن التذكرة، إيه ذنب الحكومة ووزير النقل المهندس محمد رشاد المتينى؟ ناس تركب سطح القطار وهى تعرف مسبقا أنها قد تموت، طب الحكومة تعمل لهم إيه؟ «ملحوظة: أنا هنا متهمة بأننى عدو الشعب والغلابة يعنى هم ركبوا القطار علشان يموتوا ولا علشان مفيش تذاكر ومفيش فلوس، أنا هنا متهمة ممن يوالون مرسى وحكومته حتى لو مات كل الشعب!».
يظهر الوزير فى لقاء تليفزيونى وهو هادئ جدا، ويجيب على أسئلة المذيع ببرود بالغ عن أزمة تذاكر السفر وحادث القطار دون أن يقول كلمة واحدة بها منطق رغم أنه لو فكر قليلا لأجاب إجابات صائبة، ولكن كله كوم وحين سأله المذيع عن أزمة ميناء السخنة التى صارت ميناء فى القائمة السوداء بسبب إضرابات العمال غير المنطقية، قال الوزير لا فض فوه أنهم يستطيعون إنهاء الإضراب بالقوة، ولكن سيخرج من يتهم الحكومة بأنها ضد الشعب واتهامات أخرى كثيرة، لهذا فهم يتركون الأمر ليحله الوقت، يا نهار أسود دولة تخسر كل يوم ملايين الدولارات وسمعة موانيها صارت فى القائمة السوداء، ويذهب كبارها للاستدانة من اللى يسوى وما يسواش ثم يجلس وزير النقل فيها يقول هذا المنطق بتاع الوقت لحل مشكلة استراتيجية خطيرة، هذه حكومة كسيحة ولا تليق بأى وقت، وعلى الشعب أن يتسطح ولو مات منه أحد يطالبها بالدية، ملحوظة: «أنا متهمة هنا بأننى أكره الإخوان ومرسى وجماعته ومتهمة بأننى من الأناركيين المخربين وأقف مع الشعب الغوغائى ضد هيبة الدولة!»
أنا إذن متهمة بأننى الشىء وضده، أنا متهمة بأن مواقفى متغيرة رغم أنى لست كذلك والله، ولكن الحكومة الرشيدة وسياستها البليدة هى السبب الذى يدفع أغلبنا للجنون ولاتهام بعضنا البعض بالجنون كذلك، ومن العجب أن المرتاحين فينا فقط هم المتطرفون تجاه الجماعة أو ضدها، أما لو كنت مثلى تريد أن تستخدم عقلك حسب الموقف، فانس لأنك ستفقده بسبب الحكومة الرشيدة وسياستها البليدة.