حينما حججت بيت الله الحرام منذ قرابة خمس سنوات صليت الجمعة فى المسجد الحرام فوجدت المؤذن فى الحرم المكى يؤذن أذانين للجمعة كما كانت تفعل معظم مساجد الأوقاف فى مصر قديماً.. وعندما ذهبت بعد ذلك إلى المدينة وجدت نفس الأمر يحدث فى المسجد النبوى.
وذلك رغم أن معظم فقهاء السعودية عامة والسلفيين خاصة لا يأخذون بهذا الرأى الفقهى فإن هذا الوضع فى الحرمين الشريفين قد استقر على الأذانين فى الجمعة منذ أيام سيدنا عثمان «رضى الله عنه».
وكنت وما زلت من أنصار الأذان الواحد لصلاة الجمعة بين يدى الخطيب.. وأرى أن علة الأذان الثانى الذى أمر به الخليفة الراشد عثمان بن عفان هى إسماع المسلمين فى سوق المدينة بالأذان.. وهذه العلة قد انتفت الآن، خاصة مع وجود الميكروفونات القوية لدى كل مسجد والتى تستطيع إسماع كل الناس حول المسجد.
فقلت فى نفسى يومها: سبحان الله هذا مما يدل على فقه العلماء فى هذه الأرض المقدسة وتسامحهم مع الرأى الفقهى المغاير لرأيهم.. فهم لم يريدوا أن يحدثوا تغييراً فى هذه السنة التى سنها الخليفة الراشد عثمان «رضى الله عنه» حتى لا تكون ذريعة للتبديل والتغيير فى شكل المناسك والعبادات المتعلقة بالحج والحرمين، وحتى لا يكون الحرم لعبة فى يد كل خليفة أو حاكم يغير فيه أو يبدل كيفما يشاء.
وقلت أيضاً: إذا كان هذا «أى أذانى الجمعة» موجوداً فى أعظم مسجدين فى العالم كله وهما: المسجد الحرام والمسجد النبوى فالمسألة إذن تحتمل الخلاف ولا تستدعى الصراع والتناوش الذى يقع فيه البعض ممن ينصر هذا الرأى أو ذاك.. فالأمر ليس أمر «حق وباطل»، وإنما هو يتراوح فقط بين الراجح والمرجوح.
ورغم مرور تلك السنوات الطوال منذ فجر الإسلام وبيت الله الحرام، ومسجد النبى «صلى الله عليه وسلم» يتوافد عليهما كل عام آلاف الفقهاء العظام كمالك والشافعى وأبى حنيفة وابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وغيرهم - رحمهم الله جميعا - ولكن أحداً منهم لم يحاول إنكار هذا الأمر أو تبديله.. رغم أن بعضهم له رأى فقهى مخالف لرأى سيدنا عثمان رضى الله عنه.. ولكنهم لم يسفهوا رأى الآخرين أو يقدحوا فى أشخاصه أو يحاولوا إبطال علمهم أو تشويه صورتهم.
ولعل فى هذا كله رسالة واضحة لأولئك الذين يتشددون فى المسائل الفقهية الفرعية التى تحتمل الخلاف وبعضهم من شباب الحركة الإسلامية خاصة والشباب الملتزم بالدين حديثاً عامة.. وبعضهم يسفه رأى من يخالفه فى الفرعيات ويوبخه وقد يفسقه أو يخرجه من دائرة الصلاح أو الإسلام.. وكل ذلك من هوى النفس والانتصار لها.. وهؤلاء ينسون أن لو شاء الله تعالى لجعل الدين كله قولاً واحداً لا خلاف فيه.. ولكنه سبحانه وتعالى أراد تنوع الآراء ووجهات النظر فى الفرعيات رحمة بالناس وإثراء للفقه وحفظا للدين.
وأنا أدعو هؤلاء الشباب المتحمسين ومعظمهم من المخلصين لله ألا ينهمكوا فى المسائل الخلافية.. فالخلافات الفقهية الفرعية لم ولن تنتهى إلى قيام الساعة.. وعليهم أن يتحلوا بسعة الصدر والأدب مع من خالفهم ما دام دائرا فى إطار الشريعة.. وعليهم أن يهتموا بعظائم الأمور وكليات الدين التى لا خلاف حولها.
فإن الأمر كلما عظمت قيمته وأهميته فى الشريعة وكل أمر من أمور الشريعة قيم وعظيم أو كان غاية من غايات الإسلام.. أو ركنا من أركانه أو مقصدا من مقاصده كلما انتفى فيه الخلاف.. وإنما يحدث الخلاف حول الوسائل والفرعيات والتفاصيل، وحينئذ يكون هذا الخلاف سعة ورحمة بالناس.
وتأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن اختلاف الفقهاء «إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة».. وكذلك قول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: «ما أحب أن أصحاب محمد «صلى الله عليه وسلم» لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس فى ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم.. فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة «إلى غير ذلك من الآداب التى تحث على آداب الخلاف».
وقد لاحظت أن التعصب هناك يذوب ويندثر فى الأراضى المقدسة، ويختفى من نفوس الناس لتحل محله روح الأخوة الجامعة، ونسائم السكينة والطمأنينة التى تغمر الجميع ببركة المكان.. ويا ليت أبناء الإسلام جميعا يستصحبون معهم تلك الروح الطيبة فى كل مكان وزمان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة