كان صديقى المهندس جمال عبدالناصر حائرا، لا يمل من كثرة ترديد هذا السؤال المعتاد «رايحين على فين؟» يقول أبعد كل هذا يكون مصيرنا هكذا؟ مشيرا إلى ثورتنا المستباحة بكلمة «هذا»، وإلى استيلاء حفنة المدعين عليها بكلمته «هكذا».. تكلما كثيرا، وتحدثنا وتناقشنا، ثم قلت له إن أى مجتمع يمتلك مخزونا استراتيجيا من المرجعيات الأخلاقية والقانونية، وأقدسها على الإطلاق هو الدين، الذى يعد أهم روافد الحياة، ولذلك من الخطر أن ندفع بمخزوننا الاستراتيجى دفعة واحدة أمام الناس، ذلك لأنه لا يجوز لأحد أن يدعى الإحاطة بالدين وأغراضه وتعاليمه، فالدين متين، والقرآن حمال أوجه، ومن يدعى احتكاره يحكم على نفسه بالهلاك الحتمى، لأن ادعاء احتكار الدين، لا يورث إلا التعصب، ولا يورث التعصب إلا التناحر، ولا يورث التناحر إلا العنف، ومن ثم التورط فى أفعال يأباها الدين، ويحرمها، ويجرمها، وبذلك تأتى ضربة الدين فى مقتل ممن يدعون الإحاطة بالدين، ولهذا وعت البشرية خطورة إدخال الدين فى كل شىء، ومغبة التحدث باسمه فى التفاصيل التى يسكنها الشيطان، وليس بعد ادعاء البعض بأنهم ينفذون الشريعة، وأنهم حماتها ورجالها إلا الاصطدام بالواقع ومتغيراته، والإنسان وهفواته، وتلك هى التجربة الشائعة فى التاريخ الإسلامى والإنسانى، ومن هنا جاءت فكرة جعل الدين المرجعية الروحية والأخلاقية، منزهة عن المتغيرات المتخبطة، ولأن «الناس تعبت» والإغراء كبير، استسلموا إلى من يدعى أنه ينفذ الدين وحامى الشريعة، وما دروا أنهم بهذا السلوك يضعون مخزوننا الاستراتيجى الروحى والأخلاقى فى المقدمة، متخذين منه درعا تنال القذائف بدلا منهم، والفشل هو المصير المحتوم لتلك الطائفة التى يضربها النفاق، وتأكلها الأغراض الخبيثة، ثم قال لى صديقى متلهفا: ثم ماذا سيكون المصير؟ فقلت له: أحد أمرين: إما أن ننزه ديننا عن العبث، أو ننتظر ثورة انتحار القيم.
دار هذا الحديث قبل انتخابات مجلس الشعب الماضية، وبعد استفتاء مارس الشهير، ويشاء الله أن يظهر مساوئ استغلال الدين على يد من يدعون أنهم حماة الدين، فرأينا أن من دعوا الناس للتصويت بنعم على التعديلات الدستورية، مدعين أنها تدخلك الجنة، هم أول من تجرع ويلات هذه التعديلات، وذاقوا جحيمها، وكأنهم قد تقمصوا دور المسيح الدجال، فنارهم جنة وجنتهم جهنم، والسبب فى أننى قلت إن أحد المصيرين هو «ثورة انتحار القيم»، هو أن الدين عادة يكون هو الملجأ من شرور الدنيا، وظلم الحكام والسياسيين، أما إذا كان الشر والظلم يتخذ ثوب الدين، فمن أين يأتى الفرج؟ وإلى أين يكون الملتجأ؟ وثورة انتحار القيم التى أقصدها، هى شبيهة بما يسميه البعض «ثورة الجياع» التى لا يكون فيها للأخلاق مكان، ولا للمرجعيات قدسية، لكنها تختلف عن ثورة الجياع لأنها لن تستثنى من اندفاعها أحدا، لا فى البيت ولا فى المسجد، ولا فى الكنيسة.
ما أعتبره مقدمات لهذه الثورة، هو تفشى حالة الاستهتار بالقانون هذه الأيام، سواء فى دار الحكم أو فى الشارع، وما عدم اعتراف الإخوان بالقانون، وتشكيل ميليشيات شبابية من أجل مكافحة التحرش وسط غياب الدولة، وتصاعد الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين، وخطف بنت عمرها ثلاثة عشر عاما تحت ادعاء إشهارها الإسلام، والهجوم الهمجى على الحفل الذى أقيم فى ديوان محافظة المنيا سوى عينة لما سيتفاقم فى الأيام القادمة، والتى إن لم نتدارك فيها أخطاءنا سيكون الجحيم هو المأوى.