هذا السؤال هو لسان حال كثير من الناس اليوم، وأحيانا لسان مقالهم، سؤال يسمعه، أو يستشعره كثير من الدعاة إلى الله، حال ممارستهم لتلك المهمة الشريفة، وسلوكهم هذا السبيل الكريم، سبيل سيد ولد آدم «عليه السلام»، الذى أمره ربه: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى»، سبيل الذكرى التى تنفع المؤمنين: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ».
هذا السبيل صار اليوم معوَّقا بحاجز منيع، يمثله هذا السؤال الحالى، أو المقالى: «عايز إيه؟ طلباتك إيه من الآخر؟»، سؤال تنطق به نظرات التشكك، والتربص، وأمارات الريبة التى تبدو على وجه كثير ممن تُوجه إليهم هذه الذكرى، أو يكونون محلا لتلك الدعوة، والبلاغ.
ربما تُترجم النظرات، والإشارات للتصريح بذلك السؤال الذى يفصح عن شبهة خطيرة استقرت فى قلوب البعض، شبهة ضرورة وجود غاية مادية، أو دنيوية من وراء الدعوة، أو الذكرى، وكأن الداعى، أو المُذَكِّر، أو الناصح الأمين الذى يطبق القاعدة النبوية: «الدين النصيحة»، لابد أن تكون له «مصلحة» عاجلة من خلف تلك التذكرة، التى ما هى إلى مقدمة لطلباته التى ستأتى فى «الآخر»!!
البعض يفترض أنك حين تكلمه فى الدين مذكرًا إياه بمولاه، أو ناصحًا له بتقواه، فإنك تريد بذلك صوته فى انتخابات، أو تريد استقطابه لحزبك، أو ضمه لجماعتك هذا بافتراض أنك منتم لجماعة أساسًا!!
والبعض يظن بك أنك تريد مالاً، أو تبرعًا ستزعم أنك ستعطيه لفقراء، أو أيتام، ثم تستولى عليه، لأنك طبعًا من تجار الدين، الذين يحذرونه منهم!!
وربما يعتقد أنك تقوم بعمل «بروباجندا» أو «شو»، لتظهر به أن تيارك ناشط، وقريب من الناس أو أنك تستعلى عليه بدعوتك.
وقد يتوجس خيفة حين تتقدم إليه بدعوتك، ظنًا منه أنك ستقوم بتطبيق الحدَّ عليه، لأنك من الجماعات التى خبّروه أنها تفعل ذلك بالمارة.
المهم أنه سيقدم هذا الظن، أنت أكيد تريد منه شيئًا!!
لن أدفن رأسى فى الرمال، أو أقول إن مسؤولية جبال الجليد التى تقف اليوم حاجزًا بين الداعى والمدعو سببها فقط الإعلام، أو الدعاية المضادة، أو الشائعات- وهى بلا شك تقوم بدور أساسى فى ذلك- لكن سأعترف أن من الإسلاميين من تسبب فى هذا ببعض الأفعال، التى أعاقت الدعوة قبل أن تسىء إلى مرتكبيها أنفسهم.
وأيضاً لن أتغافل عن الظروف التى تمر بها البلاد، من انتخابات متوالية، وموجة سياسية عارمة تجتاح الأمة، أدت إلى علو جرعة التعاطى السياسى بشكل رهيب لدى جميع طوائف الشعب تقريبًا، وانشغال العقل الجمعى بالخيارات السياسية، ودوران جل الأحاديث، والحوارات، والأفكار حولها، مما يجعل تصور وجود دعوة محضة، مجردة، نصوح، أمرًا مستبعدًا لدى كثير من الناس!
لذلك لابد من وقفة.
لابد أن يُذاب هذا الجليد، وأن يعلو من جديد مفهوم «الدعوة المرسلة»، دعوة الأنبياء، والمرسلين «سلام الله عليهم أجمعين»، الدعوة التى شعارها «وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا»، وعنوانها: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ»، ودليل مصداقيتها الذى صاح به مؤمن آل ياسين: «اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ».
دعوة لا يريد أصحابها شيئا من المخلوقين، لا مالاً، ولا شرفًا، ولا منصبًا، ولا مقامًا، ولا حتى كثرة أتباع، هكذا كان حال القدوات من الأنبياء، لدرجة أن يأتى النبى يوم القيامة، ومعه الرجل، أو الرجلان، ويأتى وليس معه أحد، نوح «عليه السلام» كمثال ظل يدعو ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما آمن معه إلا قليل، ورغم ذلك ما كلّ، ولا ملّ، بل استمر فى دعوته المرسلة، لا يريد جزاءً ولا شكورًا.
وهذا ما ينبغى أن يُؤصل «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ»، طائفة لا هَمَّ لها، إلا أن تسلك سبيل النبى على بصيرة وأن تكون من أحسن الناس قولاً «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وعمل صالحاً».
طائفة لا ترجو، إلا أن تدل الناس على الخير، ولا تهتم، إلا بأن تكون مفتاحًا لهذا الخير، مغلاقًا للشر، ونصب أعينها قول النبى لعلىّ «رضى الله عنه»: «لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ».
لابد أن توجد هذه الطائفة، وأن تمارس دورها دون هذه الفرضيات المسبقة من المتلقى، وأن يظل الاعتبار قائما بأن السؤال عن البواعث، والدوافع لتلك الدعوة قد لا تكون له إلا إجابة واحدة:
طاعة لله، وطمعًا فى رضاه..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة