منذ سنوات بعيدة والحديث عن التغير المناخى لا ينقطع، وصدرت كتب وترجمت أبحاث ومقالات تؤكد أن الكارثة قادمة لا محالة، معظم الأبحاث متخصصة وتحتاج متخصصاً مثلها، ولكن الفضول يدفع أحيانا إلى محاولة الفهم، فى الأيام الفائتة وقع تحت يدى كتاب «وجه غايا المتلاشى» لعالم البيئة الإنجليزى المستقل جيمس لفلوك، ترجمة السورى سعد الدين خرفان (سلسلة عالم المعرفة الكويتية مايو 2012)، وللحقيقة، لست مشغولاً فى البحث عن التغير المناخى أو الاحتباس الحرارى أو الاحترار مثل كثيرين ولا أريد أن أقرأ عن كوارث محتملة، ولكنى وأنا أقلب فى الكتاب وجدت شيئاً عذباً يستحق، كاتبه مولود فى 1919، وبدأ كتابته وهو فى التاسعة والثمانين، عندما سمع أن اللجنة الحكومية لتغير المناخ ipcc توصلت إلى اتفاق حول المناخ فى المستقبل، صدمه ذلك، كيف يحدث اتفاق حول قضية علمية؟، واعتبر ما حدث ينتمى إلى عالم السياسة وغرف المحاكم، حيث يشكل الاتفاق طريقة ناجعة لحل الخلافات بين الناس، ولأن العلماء معنيون بالاحتمالات وليس بالتأكيدات أو الاتفاق الجماعى، ويشك فى قدرة أى طرف على التنبؤ بمناخ 2050، وذكر «علماء الاتفاق» بالتنبؤات حول المناخ الحالى التى قدمت فى الستينيات، والتى لم تلمح أى منها حتى إلى التغيرات التى جرت فعلاً، والتى تنبأ معظمها بأن العصر الجليدى أكثر احتمالاً من الاحترار العالمى، لفلوك هو صاحب «نظرية غايا» التى تقول إن كل الأجزاء الحية وغير الحية على كوكب الأرض تعمل معا فى تناغم لتكون كائنا حياً واحداً (وغايا فى الأساطير اليونانية هى ربة الأرض التى تزوجت أورانوس)، الرجل يرفض التنبؤات، ويرى أن التغيرات تأتى فجأة، وبما أنه يكسب قوت يومه ويمول أبحاثه على الأرض كعالم مستقل عن طريق بيع الاختراعات وتقديم النصيحة، وعاش بطريقة تشبه حياة طبيب فى القرون الماضية يعمل فى عيادة فى بلدة ثرية، هذا الدور المستقل جعله مراقباً، ليس للغلاف الجوى والمحيطات وسطح الأرض فقط، ولكن للانقسامات البشرية العديدة فى السلطة والمعرفة، ويقول «فى معظم الوقت لم أكن أكثر من دبور طار من خلال نافذة مفتوحة، كبير بما يكفى ليلاحظ، ولكنه لا يؤثر كثيرا على مجرى الأحداث»، الرجل الذى بلغ الثالثة والتسعين هذا العام، والذى اخترع أهم أجهزة قياس الملوثات النادرة، واخترع وطور لوكالة ناسا العديد من الأجهزة، والذى ينتقد بشدة جماعات السلام الأخضر التى تبحث عن طاقة بديلة نظيفة، والذى يرى أن الطاقة النووية هى الأنسب للبشرية، ويؤكد أن ما يقال عن عدم أمانها مجرد أكاذيب، يقدم فى ثنيات الكتاب خبرات إنسانية عظيمة ورقيقة منحتها له الحياة، ويوجد فصل عن جده ووالده يقارب عوالم ماركيز فى مائة عام من العزلة، لم يقصد الكتابة عن معاناتهم وسيرتهم بقدر ما يريد أن يستعرض خبراته مع الطبيعة بشكل مباشر وليس معمليا، هو يقيس عمره بعمر «غايا» فإذا كان عمرها 3،5 مليار سنة ويتبقى لها من العمر 500 مليون سنة، أى أنها عاشت 88% من عمرها، وقال إنه لو وصل سن المائة عام، سيكون وهو يكتب فى سنه الحالى فى سن غايا النسبى، ويقول: «إننى سعيد لأننى لا أملك أى فكرة عن نهايتى، ولذا كل ما يمكن أن يقال بالنسبة إلى «غايا» الآن هو أن الكواكب الهرمة، الناس الهرمين، معرضة للموت بسبب أمراض يمكن للشباب الأقوياء أن يتغلبوا عليها، إن مهمتنا كنوع ذكى هى المحافظة على بقائنا، ولو أمكننا أن نتطور بحيث نصبح ذكاء متكاملاً ضمن «غايا»، فإن فى إمكاننا عندها البقاء معا لفترة أطول».