بعد ادعاء بنى إسرائيل أن البقر تشابه عليهم، وافتعالهم ذاك الخلاف المتكلف «الذى ذكرته فى المقال السابق» ختموا جدالهم بكلمة غاية فى الأهمية فقالوا: «وإنا إن شاء الله لمهتدون»، كانت تلك من المرات النادرة التى أبدوا فيها تواضعًا أو اعترافًا بحاجتهم للهداية، قدموا فيها المشيئة، وطلبوا الاهتداء فاهتدوا وعرفوا بقرتهم، وهذه نقطة مهمة حال الاختلاف والاشتباه، أن يعترف الإنسان بحاجته للاهتداء، ثم يأخذ بأسبابه صادقًا فى طلبه عند المختصين فى كل علم؛ الذين يمتلكون الآليات اللازمة لذلك، وكما أن الاختلاف فى التفاسير والأفهام أمر مطرد فى كل العلوم؛ فإن البشر قد تعارفوا على أن يرجعوا للمختصين فى كل علم ليفصلوا حين الاختلاف والتشابه، كما عاد بنو إسرائيل لنبيهم وسألوه. ولأن العلماء هم ورثة الانبياء؛ فإن الأقرب للمنطق أن يُرجع إليهم للتفسير، والبيان عند الاختلاف فى أمر من أمور الشرع، يقدم فى ذلك الأكفأ، والأعلم؛ وذلك بآلية الاختيار المناسبة، والعادلة؛ كما يحدث فى كل علم، وليس بالكهنوتية؛ التى يُرمى بها كل من ينصح بالرجوع إلى أهل الاختصاص.
المؤسف أن هناك من يصر دومًا على افتعال الاشتباه؛ ويزعم أن علماء المسلمين لم يمتلكوا يوما تصورًا تفصيليا متكاملاً لتطبيق الشريعة الإسلامية وتقنينها، والعجيب أن مؤسسى مذاهبهم لم يُلزموا أنفسهم بوضع برامج تفصيلية، حتى كبريات المذاهب والأيدلوجيات الوضعية لم تهتم إلا بالمبادئ الأساسية، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات، الشيوعية كمثال كان اهتمامها منصبا على الجوانب الذى يجب هدمها حتى يمهد الطريق لإقامة المجتمع الجديد، أما الخطوات الجزئية، والبرامج التفصيلية والإجرائية فلا تكاد تجد فى كتابات روادها الأوائل ما يغطى شيئا من ذلك، بل إن ماركس فى رسالته إلى صديقه «تيسلى» عام 1896 اعتبر أن من الرجعية رسم خطة للمستقبل «الأيديولوجية الانقلابية للبيطار».. والثورة الفرنسية لم تجمع الناس إلا على ثالوثها المعروف: الحرية والإخاء والمساواة، ثم جاءت التفاصيل بعد ذلك، لكن الأمر مختلف تماما بالنسبة لشريعة حكمت أمما بالفعل منذ أول لحظة ولأكثر من 13قرنا.
ومعلوم أن المشروعات المعاصرة للقوانين المستمدة من الشرع على كل مذاهب الفقه موجودة، وجاهزة؛ سواء تلك التى أنجزها الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، أو المشروعات الأخرى التى أنجزتها وزارة العدل، ولا تحتاج تلك المشروعات إلا إلى المناقشة، والتفعيل لمن شاء ألا يبدأ من أول السطر، هذا بخلاف مشروعات جامعة الدول العربية، والجامعات الإسلامية، والمجامع الفقهية فى مصر والعالم الإسلامى.
ولعل أبرز النماذج التفصيلية المعاصرة؛ مشروع مجلس الشعب المصرى؛ برئاسة د. صوفى أبوطالب، الذى اشتمل على القوانين؛ المدنى، والعقوبات، والتجارة، والتقاضى، والإثبات؛ فى أكثر من 3000 مادة، يقترن كل قانون بمذكرة توضيحية لمواده المستمدة من الشريعة الإسلامية، بمذاهبها الأربعة، ولقد جمعت تلك التقنينات بين الدقة، والأصالة المرجعية، وبين المصطلحات القانونية المألوفة؛ تسهيلا للأخذ بها، وقد كان بعضها أساسًا لقوانين طُبقت بالفعل فى دول عربية شقيقة، هذا المشروع الرائع يعد نموذجًا فريدًا لتضافر العمل بين علماء الشرع، والقانون، أسهم فيه شيخ الأزهر جاد الحق على، ود. عطية صقر، والمستشار أحمد حسين هيكل، رئيس محكمة النقض، ود. جمال الدين محمود، وعشرات من علماء الشرع والقانون، فى النهاية ظل المشروع حبيس الأدراج رغم مناشدات شيخ الأزهر الأسبق المتكررة بتفعيله. للأسف يصر البعض على تجاهل كل ذلك، ويصورون الدعوة إلى تحكيم الشريعة على أنها مجرد كلام مطلق يخلو من البرامج التفصيلية، ويزعمون أن الأمر مشتبه، ومفتقر للتصور العملى، وتؤول بنا دوامة ادعاءاتهم إلى أن شرع الله غير قابل للتطبيق، وأن اختلاف الفقهاء فى بعض الفروع مدعاة للترك، أو للإبدال؛ وكأن التعددية تعنى العدمية، ويتناسون فى خضم شبهاتهم أن ما يدعون لتطبيقه من أيديولوجيات وبرامج مستوردة مختلف فيها أيضًا وبشكل أكثر حدة، فهناك اشتراكيات متعددة؛ اشتراكية بابون مثلا تختلف بشدة عن اشتراكية برودون، واشتراكية سان سيمون وبرودون تتباين مع اشتراكية بلانكى، وما سبق يتمايز عن أفكار لويس بلان، وكابيه، وفوربيه، وكذلك ستجد خلافًا واضحًا بين الديمقراطيات، وبعضها، والليبرالية أيضا تتنوع رؤاها ورغم ذلك لم يزل أصحابها يروجون لها، ولم يجعلوا علة اختلاف الرؤى والتفاسير سببا فى الترك، لماذا إذًا مع الشريعة فقط يظل هذا الادعاء، الذى للأسف يشبه كثيرًا ادعاء بنى إسرائيل: «إن البقر تشابه علينا»؟! ولعل ما قاله بنو إسرائيل بعد تلك الدعوى شفع لهم، وبلغهم الاختيار الذى يصبون إليه.. فهل نسمع يوما من يقول فى تواضع: «وإنا إن شاء الله لمهتدون».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة