نخدع أنفسنا إذا علقنا أسباب الحادث المروع فى منفلوط على شماعة عامل المزلقان الذى كان نائما أثناء مرور قطار الموت، ونخدع أنفسنا أكثر إذا اعتبرنا استقالة وزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية كافية للقصاص لأرواح الشهداء الصغار، فمنظومة السكك الحديدية عميقة الفساد وتغرق فى الإهمال، وكلما وقع حادث مروع يقتصر الإصلاح على إقالة بعض المسئولين أو تقديمهم للمحاكمة لتهدئة الرأى العام، بينما الخلل ضارب فى الجذور، حتى تحولت القطارات إلى ما يشبه نعوش طائرة تخترق المدن والقرى والشوارع والمزلقانات دون إجراءات تأمينية كاملة.
ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و8 سنوات واغتالتهم يد الإهمال الساعة السابعة صباحاً، وأسكتت ابتسامتهم وشقاوتهم وأحلامهم الصغيرة إلى الأبد، ومن المسئول عن عامل المزلقان النائم، وهل هو كان نائما فعلا أم كبش فداء، ومن يحاسب من فى زمن الابتزاز والفوضى والاعتصامات والإضرابات التى لا تنتهى، فترك الناس العمل والمسئولية والضبط والربط وتفرغوا للإطاحة برؤسائهم مثلما حدث فى المترو، وخرج وزير النقل ليقول للرأى العام، إنه أُجبر بفعل الضغوط على الإطاحة به رغم عدم اقتناعه بذلك.
ومن يعوض الآباء والأمهات الذين فقدوا فلذات أكبادهم على القضبان، وبعض الأسر كان لهم شهيدان، خصوصا أن تصريحات المسئولين جاءت مستفزة للمشاعر، ولا تهتم إلا بإثبات براءتهم وعدم إهمالهم وأنهم وصلوا موقع الحادث فور حدوثه، وكنا نتمنى أن يكونوا هناك قبل وقوع الحادث أصلا، وبعضهم كان يتجول بين الفضائيات وكأنه يلمّع نفسه ويشرح إنجازاته ويعلقون الكارثة فى رقبة عامل المزلقان، وكان أجدر بهم أن يصمتوا عن الكلام حتى تنتهى التحقيقات، أو أن تكون لديهم الجرأة والشجاعة مثل وزير النقل فيستقيلوا أو يُقالوا، فلا يصح أبدا أن يحاول البعض الصعود إعلاميا فوق جثث الأطفال التى تناثرت على القضبان لمسافة 300 متر.
لا يصح أبداً أن يظل الإهمال حراً طليقاً وأقوى من الدولة والقانون، ولا يستطيع أحد أن يتصدى له أو يقاوم جبروته، الإهمال الذى يعشش فى كثير من مناحى الحياة ويهدد كل يوم بكوارث كثيرة، لولا الستر وعناية الله وبركة دعا الوالدين وأولياء الله الصالحين، وزاد الطين بلة سريان قانون الفوضى والابتزاز وضياع هيبة الدولة وسلطة القانون بعد قيام الثورة، فأصبحت البلاد مرشحة إلى تكرار مثل هذه الحوادث العشوائية، وإذا لم نَفِق من الغفوة القاتلة ويعود الهدوء والاستقرار للبلاد فقد تتكرر مثل هذه الكوارث لا قدر الله.
لا يصح أبداً أن نستريح للتنكيل بعامل المزلقان حتى لو كان نائما، وينتهى الأمر عند هذا الحد انتظارا لحادث جديد، فالبلد كلها نائمة فى الإهمال، والإهمال الأكبر هو التشتت والانقسام والتشرذم والفرقة بين أبناء الوطن، فتفرغوا لمعاركهم الشخصية وأجنداتهم الخاصة، دون أن يتركوا الفرصة للبلاد أن تلتقط أنفاسها، وتتفرغ للهموم والتحديات والمشاكل المزمنة التى تملأ البلاد بطولها وعرضها، وبدون ذلك ستظل أرواح الأطفال الشهداء معلقة بين السماء والأرض، ولن تهدأ حتى لو أعدموا ألف عامل مزلقان.