براء الخطيب

يا وابور قوللى وها تقتل مين؟!

الأربعاء، 21 نوفمبر 2012 03:59 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
للسفر بالقطار بين مدن وقرى مصر المحروسة طعم لا مثيل لحلاوته، وللريف المصرى فى الدلتا أو فى الصعيد من خلف زجاج نافذة القطار حلاوة لا تدانيها حلاوة أخرى، تعود بى الذاكرة لما يقرب من أربعين سنة عندما كنا نحن شباب وفتيات قرى مركز دسوق نركب القطار الذاهب إلى الإسكندرية كل صباح، حيث المدارس والجامعات، وكم من الصداقات التى استمرت بعد ذلك أكثر من نصف قرن كانت بداياتها فى هذا القطار، وكم من العلاقات الغرامية البريئة التى نمت بين شباب وفتيات تجمعهم عربات القطار فى كل صباح وهم فى طريقهم لكلياتهم فى جامعة الإسكندرية، منها علاقات انتهت بالزواج بعد التخرج، وكان نتيجتها أبناء وأحفاد بعد ذلك، ومنها علاقات انتهت بالفراق وبقيت مجرد ذكرى للحب الأول فى بدايات الشباب، ولرؤية قطار يجرى على القضبان حنين يدفع من يراه لأن يستجمع كل مشاعر الشجن التى تستدعى كل وجوه المسافرين الذين فارقونا للمدن الأخرى، هو الحنين والشجن الذى يشعر به كل القادمين من صعيد مصر إلى مدن وجه بحرى، وهو نفس الحنين ونفس الشجن الذى دفع الشاعر العظيم الراحل «أمل دنقل» يكتب أغنية «يا وابور الساعة اتناشر» التى لحنها الأخوان رحبانى وغنتها عفاف راضى «يا وابور الساعة اتناشر/يا مقبل ع الصعيد/حبيبى قلبه دايب/ وانت قلبك حديد/ يا وابور الساعة اتناشر/والخوف دا موش بالإيد/خوفى السكة تتغير/ وتوديك بعيد/ تنسى تروح الصعيد/ يا وابور الساعة اتناشر/يا للى دخانك عيد/خدنى فى السهل الأخضر/نمشى ونزرع مواعيد/من مصر للصعيد» وهو نفس الإحساس الذى دفع المطرب العظيم «محمد عبدالوهاب» ليغنى لنا أغنية «يا وابور قوللى رايح على فين».

إنه قطار السكة الحديد الذى يرتبط فى الوجدان الشعبى المصرى بحالة الشجن والحنين الناتجة عن الغربة وفراق الأحباب سعيا وراء الرزق أو بداية لحياة جديدة فى مدينة جديدة، فهل سوف تبقى هذه المشاعر تجاه قطارات السكة الحديد بالرغم من بعض كوارث القطارات وتلك الكوارث الرهيبة التى ألمت بهذا المرفق القديم فى السنوات الأخيرة، وتقول الأبحاث إن سكك حديد مصر تعد هى أول خطوط سكك حديد يتم إنشاؤها فى أفريقيا والشرق الأوسط، والثانية على مستوى العالم بعد المملكة المتحدة، حيث بدأ إنشاؤها فى خمسينيات القرن التاسع عشر حيث تمتد عبر محافظات مصر من شمالها إلى جنوبها.

وقد بدأ إنشاء أول خط حديدى فى مصر يوم 12 يوليو عام 1851، وبدأ التشغيل إبان الاحتفالات بافتتاح قناة السويس عام 1854 فى عهد الخديو إسماعيل باشا، ومما يذكر أن المشرف على مشروع بناء السكك الحديدية المصرية آنذاك كان المهندس الإنجليزى روبرت ستيفنسون، وهو ابن مخترع القاطرة الشهير جورج ستيفنسون، ومن المفترض أن الهيئة القومية لسكك حديد مصر هى إحدى القطاعات الخدمية بوزارة النقل والمواصلات، وهى عضو عامل فى الاتحاد العربى للسكك الحديدية وفى لجنته الدائمة، وكذا فى اتحاد سكك حديد آسيا والشرقين الأوسط والأدنى، كما أنها عضو عامل فى الاتحاد الغربى للسكك الحديدية، ومن المفترض أنها تتابع المؤتمرات الدولية الدورية لهذه الاتحادات وتشارك بأبحاثها واقتراحاتها، وبالتأكيد ليس فى ابتكار طرق جديدة لقتل أطفال المصريين أو حرقهم إهمالا وفسادا فى عرباتها وعلى قضبانها ومزلقاناتها، ويخرج علينا الإخوانى الانتهازى سارق الثورة الذى وجدها فرصة سانحة لينتهزها بانتهازيته المعروفة ليستخدمها فى فجاجة وغلظة وسوقية للدعاية لجماعته وليلقى علينا موعظته بعد فرم لحم فلذات أكبادنا تحت عجلات القطار بأن هذه «الحادثة» قد أثبتت «ديمقراطيتهم» بمرجعيتها الشرعية، وذلك لتفضل معالى وزير النقل بالاستقالة مع أنه عندما حدثت كارثة مشابهة سنة 2000 فى عهد الذليل المخلوع خرج علينا رئيسه الحالى - كان يومها عضوا فى مجلس الشعب - ليجلجل تحت قبة البرلمان بضرورة محاكمة المسؤولين الكبار الفاسدين فى وزارة النقل، لكنه اكتفى فى كارثة اليوم بإرسال رئيس وزرائه لمقر الحادث الرهيب، ولكنه لم يجد بقايا طفل حتى ليذرف عليه دمعة واحدة بقيت من دموعه الغزيرة التى ذرفتها عيونه فى غزة.

وطبقا للإحصائيات الرسمية فإن حجم نقل الركاب بالسكك الحديدية المصرية يبلغ ما يقرب من 1.4 مليون راكب يوميا، وبالتأكيد ليست لسرعة القطارات دخل فيما يحدث لنا من كوارث تقتل لها فلذات أكبادنا فثمة تغيرات فى المواصلات بالسكك الحديدية على مستوى العالم كله، فمثلا شهدت المواصلات بالسكك الحديدية فى الصين رفع سرعة القطارات 6 مرات بعد ولادة الصين الجديدة تبعا لما أعلنته الجهات الرسمية فى الصين، خذ مثلا، كان القطار يقطع المسافة من بكين إلى شانغهاى فى 36 ساعة و48 دقيقة فى عام 1950، و18 ساعة و58 دقيقة فى عام 1978، و13 ساعة و32 دقيقة فى عام 2004، و9 ساعات و59 دقيقة بعد 18 إبريل عام 2007، فهل يعود لنا السفر بقطارات السكة الحديد هو الأكثر إنسانية وراحة للشعب الفقير المعدم، لأن القطار اليوم فى عهدهم يؤكد بالفعل أن قلبه حديد، فهو ما يزال يقتل أطفالنا تحت عجلاته ويحرق شيوخنا وشبابنا داخل عرباته، وبعد أن كان دخان القطار يعلن لأهل الصعيد عودة الآباء من الاغتراب فى المدن البعيدة خلف لقمة العيش للأبناء لقضاء العيد مع فلذات أكبادهم، أصبح دخان القطار اليوم يعلن عن تقطيع أطفال جدد تحت عجلاته، ولم نعد نخاف من أن ينسى القطار مواعيد ذهابه للصعيد ويا وابور قوللى رايح على فين، بل أننا أصبحنا نسأله سؤالا واحدا: يا وابور قوللى ها تقتل مين؟





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة