ليس من يعارض الإعلان الدستورى كافراً وملحداً وخارجاً عن الإسلام، كما يزعم بعض شيوخ الإخوان والسلفيين، فالسياسة ومناوراتها وآلاعيبها لا علاقة لها بالكفر والإيمان، والحاكم بشر يصيب ويخطئ، وليس نبياً مرسلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعقل أبداً أن يتم إشهار المصحف والسيف والترهيب والتخويف فى الصراع السياسى الدائر حاليا، فهذا هو أقصر طريق إلى الفتنة الكبرى التى تحرق الأخضر واليابس، ولن تترك لنا إلا بقايا وطن نبكى على أطلاله، وشعب ممزق يتصارع على الحطام.
المثل يقول: "ليس مهما أن يكون القط أبيض أو أسود ولكن الأهم أن يمسك الفأر"، والفئران التى تعبث كثيرة، وكل منها يزعم كذباً أنه الأكثر حباً لمصر، وحرصاً على مصالحها، وأنه الأكثر قرباً من الجماهير واستحواذاً على تأييدها وكأنهم أطباء قلوب ويمسكون فى يدهم سماعة طبية يقيسون بها نبض الجماهير، وهؤلاء جميعا ينطبق عليهم حكمة تقول "المهاويس فقط هم الذين لا يعرفون الفرق بين الجماهير التى تسير خلفهم لتؤيدهم، أو لتقذفهم بالحجارة"، وأصبحت عبارة "الشعب يريد" هى وسيلة الغش والخداع المعتمدة للتحايل على الرأى العام والاستيلاء على إرادة الشعب.
وإذا كان الخط المستقيم هو أقصر طريق للوصول إلى الهدف، فيجب الاعتراف بأن مصر انشقت نصفين، ولا يسعد حاكم عادل أن يكون نصف شعبه غير راض عن حكمه، وتراوده المخاوف من إساءة استخدم الصلاحيات الإلهية التى منحها لنفسه، وسوف تزداد الأوضاع سوءًا وانفلاتاً إذا لم يتغلب صوت العقل على غرور القوة الطائشة، وليس معقولا ولا مقبولا أن تعود البلاد إلى نقطة الصفر بعد عامين من التدهور والانهيار، والخيام والإعتصامات فى ميدان التحرير، والطوب والحجارة والغاز المسيل للدموع فى القصر العينى ومحمد محمود، وكأن هذا الشعب يرتد إلى الوراء ويضيع بإصرار وعناد كل الفرص دون إنجاز واحد.
هل تتحمل الأوضاع المهلهلة فى البلاد مزيدا من المشاكل والأزمات، أم أنها فى أمس الحاجة إلى قائد حكيم يعيد الخائفين إلى شاطئ الأمان والطمأنينة، ويشطب من القاموس السياسى البغيض مفردات الإقصاء والإبعاد وتصفية الحسابات والغل والانتقام، ويقود سفينة الوطن المضطربة إلى بر الأمان، بدلا من لغة التهديد والوعيد والتربص بالمعارضين، قائد يلم الشمل ولا يفرق أبناء الأمة، يحتويهم ولا ينفرهم، يحتضنهم ولا يرهبهم، يعيدهم إلى مائدة الحوار والنقاش والاتفاق والاختلاف السلمى، بدلا من التناحر والتشاجر وانقسام الأمة شيعاً وأحزاباً؟
مصر فى خطر والسفينة مهددة بالغرق ولا سبيل للإنقاذ إلا الحكمة والتعقل والهدوء، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها وكيانها، وليس تعريضها للتفكيك والانهيار والقضاء على هيبة الدولة وسيادة القانون، ولن ينفع ذلك بعصا السلطان الذى يضرب- دون أن يدرى- أحد أجنحة حكمه، بل بسلطان القانون الذى يحمى الحاكم والمحكوم ويمنع الانفجار، فالملك لك اليوم وعليك غداً والحاكم العادل هو الذى يؤمّن نفسه بقانون عادل، يحميه وشعبه بعد انقضاء الحكم وزوال السلطان، قانون يعيد إلينا سر عدالة الفاروق عمر بن الخطاب "حكمت فعدلت فأمنت فنمت".
ليس من مصلحة أحد أن يمضى التصعيد إلى طريق مسدود ونفق مظلم ليس فى نهايته أى ضوء، فتتزايد دوائر اليأس والإحباط والاحتقان، ويعود الشعب للبكاء على ماض شيعوه إلى مثواه الأخير، وليس من مصلحة أحد أن تستمر البلاد فوق صفيح ساخن، أو أن تنقسم بين مسلمين وكفار ومؤمنين وملحدين، والإسلام برىء من هذه البدع التى فتحت أبواب الفتن، وأراقت من دماء المسلمين بسيوف المسلمين أكثر من سيوف أعدائهم، ولا نملك إلا أن نرفع أيدينا إلى السماء: "اللهم اجعل البلد آمنا".