د. محمد على يوسف

حرب «المصطلحات» الأهلية

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012 06:25 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«إِنّ هَـَؤُلآءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ».. لم تكن تلك هى المرة الأولى التى يُلَبِّس فيها فرعون على الناس تصوراتهم من خلال رحلة طويلة من تحريف المصطلحات والتحريض الفكرى على موسى وقومه، فتارة يجعله كبيرا للسحرة علمهم السحر، وتارة أخرى يصمه بالجنون، وثالثة يتهمه بشق الصف الوطنى ومحاولة إخراج المواطنين من بلدهم وهكذا يتوالى مسلسل ما أريكم إلا ما أرى. طريقة معروفة ومطردة على مدار التاريخ الإنسانى بتلبيس المصطلحات وتسميتها بغير أسمائها، ثم تكرارها حتى تتأصل وتتغير مدلولاتها فى القلوب. فعل المنافقون ذلك يوم الأحزاب حين قالوا: «إن بيوتنا عورة»، والعورة لفظ شرعى لا يستعمل فى مثل هذا المقام، لكنهم جعلوه ذريعة للتخاذل، ومن ثمَّ القعود لستر تلك العورة المزعومة، وفعلوها يوم تبوك حين قال بعضهم: «ائْذَن لِّى وَلاَ تَفْتِنِّى»، فجعلوا مخافة الافتتان بنساء الروم حجة لترك الجهاد، وهكذا فى كل زمان ومكان، فى عصرنا مثلا سُمِّيت الخمور بالمشروبات الروحية، وأطلق على الابتذال والتعرى فن وتحضر، وعُدت مقاومة المحتل لدى البعض إرهابا وعنفا، وتعد تسمية الأشياء بغير اسمها مسوغاً يجعل المتلقى يقبلها، مستحسناً إياها، غير معظمٍ لحرمتها، لما تضفيه عليها تلك المسميات اللطيفة من طابعٍ لين يهون من فظاعتها، أو يرفضها مستبشعاً إياها إن كانت من نوعية المسميات التشويهية. اليوم نجد تلك الحرب الاصطلاحية على أشدها، ونستطيع أن تلحظ محاولات حثيثة ومفضوحة لتهجين المصطلحات، وتدليس التسميات، وتحريف المدلولات، فما بين توصيف للاعتداء على الممتلكات الخاصة، وإحراقها على أنه عمل ثورى عظيم، وتسمية البلطجى المخرب الذى يعتدى على آمنين فى مقر حزبهم وربما يقتلهم، بالمناضل الثائر، وتدجين الشخصيات الفلولية ذات التاريخ المعروف تمهيداً لقبولها فى نفوس الأتباع بسبب المصالح المشتركة. وما بين تكرار ممنهج لمصطلح «الحرب الأهلية» حتى تهون على الألسنة وتصير مسلمة ممكنة الحدوث، رغم ندرتها أو انعدامها فى التاريخ والطبيعة المصرية، تتبين حقيقة تلك الحرب الاصطلاحية شديدة الخطورة، ولو تغاضينا عن لىِّ عنق الحقائق السابقة وتعاملنا معها من منطلق أن تلبيس المصطلحات وتغييرها أمر مطرد كما سبق أن ذكرت، ويكمن حله دائما فى البيان والتوضيح والتعليم والتثقيف، فلا يمكننا أبداً أن نتغاضى عن الأسلوب الثانى، وهو تهوين أمر الحرب الأهلية على النفس، والتعامل معها على أنها مآل لا مناص عنه ولا مهرب منه. يحدث ذلك اليوم فى الإعلام وتناوله لأحداث اقتحام مقرات الإخوان وإحراق محتوياتها، وهو الفعل الذى استنكره أكابر المختلفين مع جماعة الإخوان ومع قرارات الرئيس مرسى، ولا يمكن لعاقل إلا أن ينكره، لكن الإنكار وحده لا يكفى، فكما قلت: كثرة التصريحات والأسئلة الإعلامية عن الحرب الأهلية وإجاباتها المائعة تعد - فى رأيى - تحضيراً ذهنيا لهذا السبيل النكد أخشى أن يكون مقصوداً.إن الحرب الأهلية الشاملة تستلزم وطنا ذا طبيعة وديموغرافية تختلف تماما عن وطننا الذى يئن تحت وطأة تلك الافتراضات السقيمة، فالحروب الأهلية تحدث بين أقوام غير متجانسين عرقيا أو مذهبيا فى الأساس، أو فى بلد تتعدد فيه القوى ذات الميليشيات المنظمة أو المسلحة،وليس هذا متوفراً فى مصر بفضل الله، رغم محاولات البعض لتعكير ذلك بتصوير المعارك الأيديولوجية النخبوية على أنها موجودة فى الشارع بين المواطنين البسطاء الذين لا تعنيهم أكثر تلك التناطحات والصراعات. فى مصر بلا شك تنوع عقدى لكنه ليس جديداً، واستطاعت بلادنا التعايش معه لقرون، وهو ليس بالحدة ولا بالنسبة التى تورث حرباً أهلية، وكذلك التنوع العرقى لا يكاد يذكر، أما الاختلاف السياسى وصراع المصالح الحزبية، فميدانه الرئيسى حلبات التطاحن الليلية فى الفضائيات، ومتابعة جل المواطنين له من منطلق أن هذه هى البضاعة المعروضة، وحتى لو تأثر المواطن بصخب تلك المكلمات فإنه تأثرٌ لا يورث حملا للسلاح فى وجه زميله فى العمل أو صديقه الذى يجالسه ليلا على المقهى، ربما يتشاجران ويحتدان على بعضهما فى مشادة سياسية تنتهى فور قيامهما عن مجلسهما متضاحكين ساخرين، وربما لاعنين لكلَّ تلك المعارك الفضائية التى «دوشت» أدمغتهما وعكرت صفوهما. نعم قد تحدث احتكاكات وربما مناوشات أو أعمال عنف محدودة لكن حرب أهلية شاملة؟! أشك بل أستبعد. سيتعارك أهل الفضائيات وشبكات التواصل كما يشاءون، وسيحرض المحرضون على نقل الصراع السياسى من الخلاف فى الرأى إلى التخريب والقتل والدخول فى دائرة الفوضى فهذا آخر ملاذ تبقى لهم، ولكن سيظل فعلهم واضحا للجميع، وفى النهاية لن يغادر مسماه، وسيذهب الزبد جفاءً، وسيمكث فى الأرض ما ينفع الناس.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة