براء الخطيب

مروّح على مصر: بكائية إلى «أبوعلى إياد»

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012 11:38 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انسحابا من واقع مؤلم ودخولا إلى كهف الذكريات حيث أربع مدن عربية لا حد لعشقى لها: «عمان» و«دمشق» و«بغداد»، و«بيروت»، ولكل منها -وفيها- عشرات الحكايات، بكل هذا العشق جلس الرجل الكهل يحمل فوق كتفيه خمسة وستين عاما هى كل عمره، يتابع على موقع «قناة الجزيرة الفضائية» الفيلم الوثائقى «مروّح على مصر» عن المصريين العاملين بالأردن، وما هى إلا لحظات حتى بدأ ينسحب داخل كهف ذكرياته فيفتح العشق مغاليقه، واجتاحته ملامح «الفتى» الذى كان قد خلف وطنه «مصر المحروسة» خلف ظهره، وحملته السفينة إلى ميناء العقبة: كان الفتى -يومها- فى السابعة عشرة من العمر، واستطاع «الفتى» الحصول على «جواز سفر» مزور لا يحمل اسم «الفتى» الحقيقى بل اسما اختاره له المزور، واستطاع «الفتى» مغادرة مصر المحروسة على ظهر سفينة بحرية إلى ميناء «العقبة» بالأردن، ووصل «الفتى» إلى «العقبة» ومنها إلى «عمان» الرحيمة، حيث دله بعض الناس الطيبين على وسط المدينة ليجد لنفسه عملا يقتات منه، وإلى جوار جدار «المسجد الحسينى» تعرف على «كايد» بائع الجرائد، واصطحب «كايد» الأردنى صديقه «الفتى» المصرى إلى مقهى فى مواجهة المكان الذى كان يتخذه «كايد» مركزا لبيع جرائده فى ناصية شارع اسمه «بسمان»، وكان المقهى يحمل فوق مدخله لافتة كتب عليها «مقهى الجامعة العربية» ويذيع الأغانى المصرية بصوت عال للمطربين أمثال «محمد رشدى» و«عبدالحليم حافظ» و«فريد الأطرش» من جهاز التسجيل، لكن «عم أبومحمد الهنداوى» المشرف على المقهى دائما ما يخفض صوت «فهد بلان» وهو يزعق بصوته الجهورى مغنيا «واشرح لها» أو «ركبنا على الحصان» أو «يا سالمة» وبالذات فى أوقات الأذان الذى كان يأتى من المسجد الحسينى. قضى «الفتى» أيامه يعمل فى نظافة المقهى ويعاون النادل فى تقديم الأرجيلة والطلبات للزبائن نظير خمسة عشر دينارا شهريا، حيث كان ينام فى المقهى فوق كنبة خشبية فرش فوقها سجادة سميكة، وفى النهار كان «الفتى» يقوم بتوصيل «المشروبات» إلى محلات الإلكترونيات التى تبيع أجهزة الراديو والكاسيت أو إلى مشاغل الأحذية و«الكندرجية» مثل المعلمين «عاشورى» و«بوغوص» أو «المحمصة» التى كانت فى مدخل «طلعة قبرطاى»، وفى مساء بعض الليالى كان يدخل سينما «رغدان» القريبة من المقهى والتى كان يفضلها عن سينما «بسمان»، لأنها كانت تعرض الأفلام الهندية المليئة بالرقص والراقصات والأغانى بالألحان ذات الإيقاعات التى كانت ترقص الحجر، وربما كان «الفتى» بعد خروجه من سينما «رغدان» يدخل من باب «الكيت كات» ليخطف له مشروبه الساقع الذى كان يكلفه سبعة قروش مع طبق من الترمس قبل أن يذهب إلى النوم فوق الدكة الخشبية فى مقهى «جامعة الدول العربية»، وفى لحظة مفصلية فى حياة «الفتى» أشبه بلحظات القدر فى التراجيديات اليونانية طلب «عم أبومحمد هنداوى» من «الفتى» أن يحمل صينية كبيرة من النحاس الأصفر عليها كمية كبيرة من «المنسف» بقطع اللحم الشهية، وأن يذهب بها إلى المطبعة الموجودة على الدرج فى طلعة «قبرطاى»، التى كانت تطبع بعض الجرائد، وطلب «عم أبومحمد» من «الفتى» تسليم صينية المنسف للقائد الفلسطينى «وليد» الذى حضر للمطبعة تحية له، وحمل «الفتى» صينية المنسف وتقابل مع القائد الفلسطينى «وليد» وعرف «الفتى» أن القائد الفلسطينى أنه قد حضر اليوم للمطبعة لتسلم الأعداد التى تم طبعها من جريدة «فتح» التى تصدرها «حركة التحرير الوطنى الفلسطينى»، ومن هذا اليوم وبعد عدة لقاءات مع القائد «وليد» وحوارات مطولة وحكايات عن «فلسطين» و«مصر» واعتراف من «الفتى» للقائد الفلسطينى بحقيقة اسمه وجواز سفره المزور، من هذا اليوم لم يفارق «الفتى» الأخ «وليد نمر» الذى اكتشف «الفتى» بعد مدة قصيرة أنه القائد الفلسطينى «أبوعلى إياد»، ولم يعد بعد ذلك إلى «مقهى جامعة الدول العربية» وحمل «الكلاشينكوف» وسكن فى «مخيم الوحدات» فى بيت «أم رزق» مع مجموعة من الشباب فى مثل سنه كان أقربهم إليه «أنسى اليمنى» الذى لم يكن هذا اسمه الحقيقى فقد كان اسمه «عائض» لكن «أبوعلى إياد» هو من منحه هذا الاسم، أخذ منه الأخ «أبوعلى» جواز سفره المصرى المزور وأعطاه بطاقة هوية صادرة من «الكفاح المسلح الفلسطينى» عليها صورته تحمل تصريحا دائما، وكان أقوى من كل بطاقات الهوية «حتى الأردنية» و«هشام المصرى» اسما منحه له «أبوعلى إياد»، كما منحه خمسة وثلاثين دينارا راتبا فى الشهر وتعاهدا -على كتاب الله ورغيف خبز وكلاشينكوف- ألا يتحدث مع أى مخلوق أو كائن من كان عما يراه أو يسمعه منذ هذه اللحظة وإلى أن يموت، وبعد شهرين نقله «أبوعلى إياد» ومعه صديقه «أنسى اليمنى» فى سيارته إلى «عجلون» فلم يعد إلى «عمان» بعدها أبدا، حيث وضع قدميه على أول «الطريق الطويل إلى فلسطين»، كما أكد له قائده «وليد نمر» المعروف باسم «أبوعلى إياد»، واندلعت المعارك الضارية بين القوات الفلسطينية فى «عجلون» وقوات كبيرة ومن جهات متعددة من الفرقة الثانية للجيش الأردنى التى كانت تمشط كل شبر فى الجبال والمرتفعات والمنخفضات والقرى حول «عجلون» فانتقلت القوات إلى قرية اسمها «الحصن» ومنها إلى بلدة «إربد» وعرف «الفتى» أن «أبوعلى» يقود القوات باتجاه حدود سوريا التى قد يدخلونها، لكن «الفتى» اكتشف أن بعض القوات السورية قد أتت لتنقذهم من جحيم الفرقة الثانية الأردنية ولكن صديقه الحبيب «أنسى اليمنى» كان قد أصيب فى بطنه إصابة بالغة، واستوقف «أبوعلى» سيارة نقل جنود سورية وأمرنا بوضع «أنسى اليمنى» فيها وطلب من «الفتى» أن يركب معه ويصاحبه لتوصيله إلى المستشفى، إلا أنه وصل إلى الشام «دمشق»، وكان «أنسى اليمنى» قد مات فى الطريق، واشترك فى دفنه وبعد حوارات معه مع بعض الضباط السوريين الذين استطاعوا الحصول له على وثيقة سفر من السفارة المصرية وأركبوه الطائرة عائدا إلى مصر، كان الفيلم الوثائقى «مروّح على مصر» يتمم اكتماله على الشاشة، وكان الكهل يتابع «الفتى» فى ذاكرته: هل كنت أنت «الفتى» اليابس المر؟ وكل شىء ينتهى إلا «الطريق الطويل إلى فلسطين» يا أبا على، وتمتد بيننا لهفات الغياب، وها هو «الفتى» وقد قرر بعد أربعين سنة أن يحنث بعهده معك يا أبا على، وها هو يعود ضائعا كضياع «الطريق الطويل إلى فلسطين» من تحت قدميه، ولم يتبق إلا طيفك يا أبا على، تأتينى عيناك النافذتان وأسمع صوتك ضاحكا: «لم أر أحدا يرتدى ملابس مجعلكة مثلك»، ولم أكن أعرف معنى كلمة «مجعلكة» لكنى كنت أحب سماعها منك فأنت من أعطانى معانى الكلمات، وأنت من أعطانى اسمى، وقد طال السفر يا أبا على، وطال الطريق إلى فلسطين أكثر أكثر وما زلت أرى وجهك فى كل وجوه الأطفال وأنت كنت كالنبى الوحيد الذى كان يعرف أن الطريق طويل إلى فلسطين.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة