كان المشهد مضحكاً بقدر ما كان مبكياً، جمعية الإخوان التأسيسية لكتابة الدستور تسابق الزمن من أجل الإسراع فى حشر المواد فى المسودة النهائية، انتابتهم حالة من الصرع غير المسبوق، يتنافسون فى "السربعة" واللهوجة غير مكترثين بملايين المعارضين لهذا المشروع القمىء، تشعر وكأنهم "صنايعية" اتفقوا على إنهاء "المقاولة" بأسرع وقت ممكن، ليتفرغوا لمهمة أخرى، أصبح دستور مصر على يديهم "مرمة" أو "نحتاية" لا يهم فيها التجويد، لكن المهم هو الإنجاز، والنتيجة هى مشروع دستور مشوه غير شرعى وغير توافقى أقصى من داخله كل التيارات المعارضة والعديد من الفصائل الوطنية المستقلة، مرتكبين بذلك جريمة لا تغتفر، فقد سخروا دستور مصر ليخدم رئيسهم، وضحوا بالوثيقة التى من المفترض أن تحكم مصر لأجيال وأجيال، من أجل إنقاذ مرسى من المأزق الذى أوقع نفسه فيه بإصدار إعلانه الدكتاتورى المشبوه، ولسان حالهم يقول إنهم ضحوا بالقوى الوطنية والوطن والمستقبل والتنوع والتاريخ "عشان مرسى يعيش".
للتاريخ هنا أن يقف طويلا، ليرى كيف حمل الإخوان الأمانة فخانوها، وكيف أبرموا الوعود فخالفوها، وكيف أقسموا فحنثوا، وكيف سخروا مشروع الدولة من أجل خدمة فرد واحد، وكيف أقصوا كل التيارات الوطنية عن كتابة دستور وطنهم، متجردين من أدنى شعور بالمسئولية الوطنية، متحلين بروح العصابة التى تنقض بليل على ما تجده من مغانم، لتقف كل مصطلحات "أخونة الدولة والتكويش والانتهاب" قاصرة عن وصف ما حدث.
إنها الوصمة التى لن تمحى أبد الدهر، والتى ستخرس المتنطعون الذين نادوا قديما بالتوافق الوطنى مع الإخوان وحلفائهم، فقد أثبتت التجارب أن الإخوان غير مؤتمنين على الوطن، وأنهم الأسرع فى خيانة التوافق، والأمهر فى ضرب الوفاق تحت الحزام، والأبشع فى إقصاء معارضيهم، والأطول لسانا فى الهجوم على خصومهم، والأكثر تبجحا فى إغماض الحق ومجافاة المنطق، ويكفى بنحتجية الدستور خذلانا وعبثية أنهم جعلوا محمد الصاوى المحسوب على جماعة الإخوان يصوت بدلا عن الكنيسة، وأن الغريانى كبير أصنام التأسيسية قال إنهم لا "يسلقون الدستور" متبعا طريقة "يكاد المريب يقول خذوني" أو "اللى على راسه بطحة بيحسس عليها".
لا تقف مساوئ هذا المشروع المتهاوى للدستور عند كارثة "تطبيخه بليل" أو كارثة سلقه من أجل عيون مرسى، وإنما تتعدى هذا الأمر بكثير، فهذا الدستور بجدارة هو دستور الإطاحة بسلم الديمقراطية التى أوصلت المرشد إلى حكم مصر، فلم ينص الدستور صراحة على الإشراف القضائى على الانتخابات، وإنما وضع الانتخابات فى يد ما أسموه بالمفوضية العليا للانتخابات التى قد تستعين بقضاة وقد لا تستعين "هى ومزاجها" وكذلك وضع تعيين رؤساء الجهات الرقابية التى من المفترض أن تراقب الرئيس فى يد الرئيس، ولم ينص صراحة على تجريم الاتجار فى البشر، كما أنه يتيح الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام تحت زعم الحروب والتعبئة العامة، ويمنع الجهاز المركزى للمحاسبات من مراقبة أموال الجمعيات الأهلية والتى من المفترض أن يكون من ضمنها "جماعة الإخوان"، بالإضافة إلى أنه لم يحدد لمصر نظاما اقتصاديا واضحا، وهو الأمر الذى يصب فى مصلحة القوى الرأسمالية ومن بينها رجال أعمال الإخوان، بما يعنى باختصار أنه دستور المنافع الخاصة والأغراض الخبيثة والتمكين الفج للإخوان وأعوانهم، فهم يريدون بهذا الدستور المشوه أن يغلو عنق مصر ويشلوا أطرافها ويغلقوا عليهم أبوابها، لتظل كل خيوط اللعبة السياسية فى يد الإخوان وحدهم، من رضوا عنه منحوه، ومن غضبوا عليه منعوه وحرموه، ناسين أن الدساتير أن لم تحظ بقول شعبى وتوافق وطنى تصبح هى والعدم سواء.