يبدو أن من قال إنه «لا جديد تحت الشمس» قد جانبه الخطأ حينما أطلق جملته الشهيرة، فكل ما كنا نقرأ عنه فى كتب التاريخ التى تصف الثورات والإصلاحات الكبرى يتجسد أمامنا منذ يناير 2011، كنا نسمع عن أن الثورات تأكل أولادها، وها هى تلوكهم واحدا بعد الآخر، وكنا نسمع عن ظاهرة المتحولين الذين انتموا إلى الأنظمة القديمة وإسراعهم بالانضمام إلى الأنظمة الجديدة وها هم المتحولون طوابير بعد طوابير، وكنا نسمع عن استبداد من يصورون أنفسهم باعتبارهم ثوريين وها هم يناقضون بدهيات الثورة وأولوياتها ويكررون بطريقة مملة خانقة ما كانت تنتهجه الأنظمة السابقة من تعسف وظلم وها هو الظلم عينى عينيك والفساد الذى ثرنا عليه بدأ فى الثورة على الثورة الآن، وكل شىء يعود إلى سيرته الأولى.
وتنفرد الثورة المصرية هذه المرة بأنها توضح لنا ظاهرة جديدة، أو على الأقل ظاهرة لم يذكرها التاريخ، وهى انتشار فئة من الكتاب الذين كانوا مع الثورة قلبا وقالبا، ثم تحولوا عنها إلى موائد السلطان، فبينما كنا نعتقد أن هؤلاء الكتاب سيظلون على يسار السلطة دائما ليمثلوا «ضمير» الثورة وحماتها، ذهب هؤلاء إلى حيثما يشرق وجه كرسى الحكم الوثير، يرددون أقواله، ويعادون خصومه، فى تكرارا مميز لما عرف باسم «فقهاء السلطان» لكن لأنهم يتمتعون ببعض من ذكاء وبعض من حيلة، تراهم الآن –وهذا هو الجديد- يتحاشون مدح السلطة بقدر الإمكان، لكنهم فى ذات الوقت لا يتورعون عن معارضة المعارضة، يضعفونها بشائعاتهم، ويقللون من شأنها بأقاويلهم، ويحبطون من عزيمتها بافتراءاتهم، وذلك فى اعتقادى لأنهم اعتادوا على أن يكونوا فى صفوف المعارضة، وتمنعهم بقية باقية من ذكاء وأنفة من الانصهار فى صفوف الخدم من الكتبة، ويبدو أن ذهنهم قد تفتق لهذه الحيلة الوهمية التى حسبوا أنهم بها سيحافظون على كونهم «معارضة» فأخذوا يعارضون المعارضة، وما دروا أن معارضة السلطة هى المعارضة، وأن معارضة المعارضة هو ارتماء فى أحضان السلطة فحسب.
بدهيات العمل السياسى فى الدولة الديمقراطية –والعياذ بالله- تفترض أن ينضم الشرفاء إلى جبهة المعارضة حفاظا على توازن الحكم وتقويما لأدائه ودعما لمبدأ تبادل السلطة، لكن أن يساهم من كنا نطلق عليهم لقب «شرفاء» فى إضعاف المعارضة بحيلهم المقيتة فهذا هو الجديد المقيت، ولأنى لا أريد أن أفقد الأمل أتمنى أن يكون هذا السلوك ناتجا من خطأ فى التفكير لا من غرض، فالخطأ يقبل الإصلاح والاعتذار كما فعل العقلاء منا، أما الغرض فمرض، يصعب التخلص منه دون جراحة مؤلمة أو دواء مرير.
نعود إلى التاريخ الذى يكرر نفسه، لنكتشف آليات جديدة فى اتباع ما هو قديم. أما القديم فهو «أكل الثورة لأولادها» بينما «الآليات الجديدة» فهى فى كيفية هذا الأكل، وأحدث فصول هذا السيناريو هو حرمان جمهور مصر والعالم العربى من برنامج «ناس بوك» الذى شهد له الناس والإعلاميون بالجودة والجدية والمهنية، فقد استطاع هذا البرنامج فى فترة وجيزة أن يكتسب شعبية ومصداقية كبيرتين، بقيادة الإعلامية الخلاقة هالة سرحان، ودون ضجيج معتاد أو سجن أو تعذيب أو ترهيب كسر قلم كان من أنصع الأقلام، وتحطمت شاشة كانت تجتذب الملايين، ويبدو أن السلطة قد استوعبت درس الطغاة التقليدين فنعمت من خشونتها، وخففت من ضجيج بياداتها، متبعة آلية جديدة فى قصف الأقلام بالضغط على أصحاب المصالح من مالكى القنوات لإبعاد مشاعل النور عن دروب الوعى، فهداهم شيطانهم إلى هذه الحيلة الجديدة، بعد أن اكتشفوا يقظة الشعب لطرقهم القديمة فى محاربة الوعى، فلم ينفع مع «ناس بوك» بلاغات كيدية، ولا محاصرة بالقضايا الزائفة، فأغلقوا الصنبور من المنبع، معتقدين أننا لم نفطن للعبتهم، وما الشعب بغافل عما يفعل المستبدون.