الثورة القادمة قد تأتى من العشوائيات، ولن يكون شعارها "الشعب يريد إسقاط النظام" ولكن "الشعب يريد حرق البلد"، ولن تكون ثورة سلمية بل دموية، وقودها الفقر والجوع والحرمان والحياة غير الآدمية لمواطنين مصريين، فقدوا الأمل فى الحياة وعجزوا عن إيجاد لقمة العيش، فماذا يفعلون والجوع يحاصرهم ويشل عقولهم عن التفكير، وهل ننتظر منهم أن يحبوا وطناً يكرههم، بينما يرون غيرهم غارقين فى النعمة والثروة، ولا يتركون لهم حتى الفتات؟!
إنها مشكلة مزمنة ومتراكمة ومتوارثة منذ عشرات السنين، ولا يمكن حلها فى شهور أو سنوات قليلة، والمهم الآن هم محاصرة المرض، ومنع انتشار العشوائيات أكثر من ذلك، وأن تعلق الحكومة على جدران أكبر قاعة فى مجلس الوزراء خريطة كبيرة للقطر المصرى، عليها دوائر حمراء للعشوائيات، وجدول زمنى مُعلن للتخلص منها، سواء بالنقل إلى مناطق بديلة أو بتطوير وتحديث المناطق القابلة لذلك، ولو تبنى الحزب الحاكم هذا المشروع القومى، سيحقق إنجازاً غير مسبوق فى تاريخ مصر ويسجل باسمه بحروف من نور، لأنه أعاد الأمل والحق فى الحياة لمصريين لهم الحق فى الحياة.
لن أضيف جديداً إذا قلت إن العشوائيات هى الصوبة التى تنمو فيها الجرائم والأمراض الاجتماعية بكل أشكالها، وأنها الموطن الطبيعى للمخدرات والهاربين من الأحكام، ولكن يقطنها أيضا مصريون شرفاء، سقطوا من أجندة الحكومات السابقة، ووجدوا أنفسهم يعيشون فى حفر من جهنم دون مرافق أو خدمات ولا شوارع ولا شمس أو هواء، العشش متلاصقة وتحرمهم من الحق فى الخصوصية، ناهيك عن جرائم ومشاجرات الزحام، التى تفرض قوانينها وسطوتها على من يعيشون فيها، فتظهر "الفتونة" والبلطجة والإتاوات، على غرار ما شاهدناه فى أفلام نجيب محفوظ والتوت والنبوت وفتوات الحارة.
ولا أتعشم كثيراً فى المبادرات الشعبية وتبرعات رجال الأعمال، لأنها فشلت على طول الخط، ولم تكن أبداً لوجه الله أو لإنقاذ سكان العشوائيات، بل للدعاية السياسية والفوز بالمقاعد البرلمانية، وللوجاهة والظهور الاجتماعى، وأحيانا للمتاجرة والمكسب والاستيلاء على التبرعات، والأمل الوحيد للقضاء على هذه المشكلة هو الدولة والحكومة والحزب الحاكم، وتدبير الإمكانيات من موارد الدولة، ولو بفرض رسوم وضرائب على القصور والمنتجعات والمدن الجديدة، وأن يتحمل القادرون نصيبهم العادل فى رفع المعاناة عن مواطنين مصريين مثلهم.
إذا اندلعت الشرارة فى العشوائيات، فلن تبقى على أخضر أو يابس، فسكانها ليس لديهم ما يخافون عليه، لا قصور ولا شقق فاخرة ولا سيارات ولا أمل فى الحياة، ولا يهمهم أن يسود الخراب لأنه لن يجد شيئاً لديهم، أما الذين أنعم الله عليهم بالخير والثروة فعليهم أن يخافوا ويعملوا حساب يوم لن تنفعهم فيه ثروة ولا ممتلكات، وإذا اقتنع الأغنياء ورجال الأعمال بأنهم يتبرعون من أجل أمنهم الشخصى، فقد يساعدون الدولة فى تحمل جزء ضئيل من تلك الفاتورة الباهظة، أما إذا استخفوا واستهانوا وتصوروا أن حراساتهم الخاصة سوف تحميهم فهم واهمون، لأن أول من سينقض عليهم هم هؤلاء الحراس.
لا أتعشم كثيراً أيضاً فى الأحزاب السياسية، التى رمت وراء ظهرها مشاكل وهموم عموم المصريين، وركزت نشاطها فى الحصول على جزء من الكعكة، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا المصيرية، وسوف يعرفون بعد فوات الأوان أنهم كانوا يلهثون وراء خيط من دخان، وتحت هذا الدخان جذوة تشتعل تدريجيا، ربما لن يروها إلا إذا أصبحت حريقاً كبيراً، يهدد أمن الوطن واستقراره، ويدخل به نفقاً مظلماً ليس فى نهايته أى ضوء.
انظروا جيدا إلى خريطة توزيع العشوائيات فى مصر، إنها مثل أحزمة الديناميت حول الأحياء الراقية والمدن الجديدة، تجثم على صدرها وتحصى أنفاسها وتحسد سكانها على النعمة التى حرموا منها، وحزام الديناميت لا يستهدف انتحار صاحبه بل قتل من حوله، وهكذا انتشرت العشوائيات واستفحل خطرها، وأصبح ضرورياً فتح خراجها بجرأة وشجاعة وتنظيفه من القيح، حتى يصح الجسد كله وتتعافى مصر من هذا الهم الكبير.