د. محمد على يوسف

تشابه البقر.. عليهم «1-2»

الخميس، 08 نوفمبر 2012 01:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
دائما ما كنت أتعجب من نموذج التمرد المستمر، والعصيان الدائم الذى ضربه الله فى كتابه ببنى إسرائيل، قوم شق الله البحر لهم، وأنجاهم من عدوهم، وأغرقه أمام أعينهم، ورفع الجبل فوقهم، وأخذ عليهم العهود والمواثيق مرارًا، فلم يمنعهم كل ذلك أن يعلنوا تمردهم صريحا فجا بقولهم: «سمعنا وعصينا»، لعل أفضح أمثلة ذلك التمرد فى قصة بنى إسرائيل، هو موقف البقرة، ذلك الموقف الذى بدأ بأمر يسير للغاية: «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة»، هكذا أطلق اللفظ بتنكيره الذى يفيد العموم، مجرد بقرة، أى بقرة! مسألة بسيطة، واضحة، تخلو من التكلف، ومصدرها معلوم موثوق، إنه نبيهم الذى رأوا على يديه آيات ومعجزات للأسف لم تشفع له لديهم حين أمرهم بذبح بقرة! بل الحقيقة أنه ليس هو من أمرهم، هو فقط أبلغهم أمر ربهم فكان رد الفعل السريع والفج حين قابلوا دعوته، وبلاغه بسوء ظن واتهام تجلى فى قولهم: «أتتخذنا هزوا»!، نعلم جميعا ماذا حدث بعد ذلك، وكيف أنهم تكلفوا، وتنطعوا، وافتعلوا تشابها وهميا، فتارة يطلبون بيانها، وتارة يسألون عن لونها، ثم عن وصفها، وفى كل مرة كانت تأتى الإجابة مصدَّرة بالجملة البسيطة الواضحة تسبق الوصف الذى عنه يستفهمون، جملة «إنه يقول إنها بقرة» وفيها التأكيد على أمرين، الأول «إنه يقول: أى أن الآمر هنا هو الله وأن مصدر التلقى هاهنا هو النص الإلهى»، الأمر الثانى «أنها مجرد بقرة، أى بقرة»، المشكلة أنهم أصروا على افتعال اختلاف متكلف، وشددوا فشدَّد الله عليهم، وظهر ذلك جليا فى قولهم «إن البقر تشابه»، والحقيقة أنه لم يتشابه، لكن العلة كانت فى غياب إرادة الامتثال، كما تبين بعد ذلك من قول ربهم: «فذبحوها وما كادوا يفعلون»، وهنا مربط الفرس ومحل الإشكال «ما كادوا يفعلون»، إن افتراض الاختلاف، واشتباه الأمر، لا يدعو أى عاقل إلى ترك الفعل نفسه، ولكن العبرة بالرغبة فى التنفيذ التى إن وجدت فإن الأمور بعد ذلك تكون يسيرة، إلا على القلوب القاسية كالحجارة، أو أشد قسوة، أتذكر تلك القصة القرآنية اليوم كلما سمعت تلك الشبهة المتكررة التى يطرحها البعض عند ذكر الشريعة والدعوة لتطبيقها، وتتلخص فى سؤالهم: عن أى شريعة تتحدثون، وقد اختلف العلماء، وتعددت المذاهب؟، بالطبع من حق أى إنسان أن يسأل عن الحل عند ورود الخلاف، وأن يبحث عن الوسيلة المثلى للتعامل معه، ولكن ما يحزن المرء أن البعض لا يسأل مستفهمًا، وإنما يُطرح السؤال غالبا فى إطار الشبهة المعطلة، وكأنه مادام العلماء قد اختلفوا، فالحل أن تُنحى الشريعة، أو تستبدل بقانون وضعى، الطريف أنه أيضا يُختلف فى تفسيره!! وأى منطق هذا الذى يقول إنه إذا اختُلف فى تفسير شىء تُرك من بابه؟! لو أن أصحاب تلك الدعوى نظروا إلى أنفسهم، إذا مرضوا- لا قدر الله- واختلف الأطباء فى طريقة علاجهم، فذهب طبيب إلى ضرورة التدخل الجراحى، ورأى آخر أن الأدوية تكفى، واعتقد ثالث أن العلاج الطبيعى هو الحل، هل سيترك أصحابنا الطب حينئذٍ، ويلجأون للدجل أو الشعوذة؟!.. أشك. الطبيعى أن يختار المريض رأى الطبيب الأعلم، والأوثق بعد أن يستنفد وسعه فى السؤال، والبحث حتى يطمئن قلبه، كذلك تختلف التفسيرات، والرؤى فى القوانين، والدساتير الوضعية ورغم هذا لم يطالب أحد يوما أن تُترك لأجل هذه العلة، فلماذا يحدث ذلك مع الشريعة بالذات، وفى بلد الأزهر؟، لقد اختلف صحابة رسول الله فى فهم أمره لهم بصلاة العصر فى بنى قريظة، فهل قرر أحدهم ترك الصلاة، نتيجة اختلاف الفهم؟! أم أن كلاً منهم اختار فهمًا من الفهمين، وفى النهاية جميعهم صلوا، وأجروا بإذن الله، الأمر يا سادة ببساطة يحتاج فقط إلى تقنين، وبذل جهد من المتخصصين للخروج بالتفعيل الواقعى المعاصر للشرع المنزل، الذى لا يبلغ فيه الخلاف السائغ ذلك الحد المفزع الذى يصوره البعض، ولقد حدثت بالفعل محاولات، ومشاريع رائعة للخروج بتقنين للشريعة فى صورة مواد واضحة، وسلسة مستمدة من الأقوال الفقهية المعتبرة منها مشروع تقنين الشريعة برئاسة الدكتور صوفى أبوطالب فى السبعينيات الذى اكتمل فى أوائل الثمانينيات وظل حبيس الأدراج إلى يومنا هذا، كذلك هناك أطروحة رائعة للمستشار على جريشة فى هذا الشأن، ومحاولة أخرى معاصرة يقوم بها حاليا مجموعة من القضاة والمستشارين بمركز دراسات التشريع الإسلامى وتطوير العدالة، وغيرها من الجهود الهادفة التى تحاول أن تطرح إجابة لقوم أخشى أن يكون لسان حالهم: «إن الأمر تشابه علينا». وللحديث بقية إن شاء الله.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة