أى متتبع للأحداث التالية لثورة يناير المجيدة يلاحظ أن ما جرى بعد تخلى حسنى مبارك عن الحكم كان له وجهان. وجه ظاهر خادع استمر لبعض الوقت، ووجه حقيقى سرعان ما ظهر، وتأكد للجميع أن ما جرى من إيجابيات كان خداعا. على سبيل المثال، تم تقديم حسنى مبارك للمحاكمة، وكذلك قيادات وزارة الداخلية، وقُدم بعض رجال الحكم السابق إلى المحاكمات بتهمة الكسب غير المشروع، وتم تحويل المتهمين فى موقعة الجمل، والعشرات من رجال الشرطة أيضا إلى المحاكمات بتهمة قتل المتظاهرين. كان ذلك يحدث فى ناحية، ومن ناحية أخرى تمت عمليات سياسية، مثل الاستفتاء على مواد الدستور الأولى، ثم انتخابات مجلس الشعب، ثم انتخابات الرئاسة.
على هذه الجبهة السياسية مشت الأمور، فى الوقت الذى لم تمش فيه الأمور على الجبهة الأخرى، تصفية النظام السابق. على العكس، بدأ المجلس العسكرى يروج لمقولات الاستقرار، وخرج الإخوان المسلمون من الحسبة السياسية لصالح أنفسهم، حيث كان تركيزهم على الفوز بالانتخابات، لا تحقيق أهداف الثورة، وأولها تصفية النظام السابق. والأمر نفسه فعله السلفيون الذين لم يحتشدوا ضد المجلس العسكرى، ولا ضد وزارة عصام شرف، ولا ضد وزارة الجنزورى بشكل رسمى، وإن تواجد بعضهم، وفى هذا كانت ميزة لهم على الإخوان الذين لم يتواجدوا، لكن السلفيين احتشدوا بقوة من أجل الشيخ صلاح أبوإسماعيل وأزمته فى الترشح للرئاسة. نعرف جميعا أنه فى هذه الفترة التى لم تبعد عن أحد، ولن تبعد عن الأذهان، ظهر اصطلاح الطرف الثالث الذى يعتدى على المتظاهرين والمعتصمين، بينما الجميع يرون الشرطة العسكرية ورجال الصاعقة يفعلون ذلك والبلطجية المأجورين ورجال الأمن. يمكن لأى شخص نسى- وأنا أستبعد ذلك- أن يرجع إلى كتاب «شعب ثائر تحت حكم العسكر» الذى أصدره مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسى لضحايا العنف، وهو كتاب لا يستطيع أحد تكذيب ما فيه من جرائم ارتكبت ضد الثوار، جرائم ضد البشرية، فى الحقيقة يجب أن يكون مكانها المحاكم الدولية. انتهى الأمر إلى نجاح الدكتور محمد مرسى رئيسا لمصر فى منافسة شرسة مع أحمد شفيق الذى بدا للجميع مرشحا للمجلس العسكرى، خاصة أن لجنة الانتخابات الرئاسية لم تستبعده رغم انطباق قانون العزل عليه، وحكمت بعدم دستورية قانون العزل قبل أن تحكم المحكمة الدستورية بعدم دستوريته، وإن لم تعلن ذلك طبعا، لكن بقبولها أوراق ترشيحه. انقسمت الثورة وانقسم الناس.. ذهب كثير من المسيحيين إلى شفيق خوفا من الإخوان والسلفيين، خاصة بعد ما ظهر منهم فى مجلس الشعب، وذهب أيضا عدد كبير من الثوار والليبراليين، لكن العدد الأكبر من الثوار ذهب إلى الدكتور مرسى، ومعهم كثير جدا من القيادات الفكرية والسياسية اللامعة. ورأينا لقاءات بينهم وبين الرجل، واتفاقات يعلن عنها شفهية ومكتوبة، وكلاما جميلا أدى فى النهاية إلى إسقاط شفيق وانتظار أن يفى الإخوان بتعهداتهم، وهو كما انتظار جودو، فى المشمش يعنى. المهم بدا أن الدولة ستستقر، وعادت وزارة الداخلية إلى عملها بشكل كبير، وعاد الجيش إلى ثكناته، وانتهى دور المجلس العسكرى فى السياسة وحكم البلاد أو هكذا يبدو. تكونت حكومة جديدة نصفها من فلول النظام السابق، تتخبط فى قراراتها كل يوم، أعلنت إفلاس الدولة وبدأت عصر الشحاتة على المصريين، وأظهرت لنا قصدا أو عن غير قصد أن النظام السابق كان سخيا وفنجريا كمان. الناس طبعا فى حيص بيص بسبب ذلك، لكن الأدهى من ذلك أنها لا تستمع إلى أحد، ولا ترد على أحد، ولا تقول لنا أين أموالنا، وتتحدث عن أهمية الاستقرار، كأن أحدا لا يريده، وتستدعى قوات الداخلية لفض الاعتصامت والإضرابات فى المصانع والطرقات والجامعة كمان، جامعة النيل مثلا. وبعد أن أعلن زير الداخلية مرة أن الداخلية تعلمت الدرس، ولن تعود إلى عهدها السابق حامية للنظام السياسى، سرعان ما أعلن أن المظاهرت والاعتصامات ضد الاستقرار.
يحدث ذلك فى الوقت الذى يلتقى فيه الدكتور محمد مرسى المثقفين مرة، ورجال المعارضة مرة، ويتنقل بين المحافظات معلنا أنه لن يتسامح مع لصوص الشعب ولا قتلة الثوار، وغير ذلك من الكلام الجميل، بينما عاد التعذيب لشباب السياسيين، وعاد الضرب والقتل فى أكثر من محافظة للمتهمين، ودخلت قوات حرس الحدود على الخط فى محافظة كفر الشيخ، وأطلقت الكلاب البوليسية على النشطاء، تجديد فى المواجهات. الصورة تبدو كأن هناك هذيانا وعدم اتزان فى الحكم، لكن الوجه الحقيقى للمسألة يختلف، وسنرى فى المقال القادم كيف سيكون الطريق إلى سوريا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة